الفنان الشعبي العصامي عبد الرحيم الجبلي الملقب بـ "الدكالي" تشبع بأصول الطرب والغناء وأصيب بمس موسيقي، منذ نعومة أظافره، من ينبوع الصفاء البدوي المتدفق بين تخوم ضفتي عبدة ودكالة، وترسخت في قلبه أنغام موسيقية، وموازين طربية، وإيقاعات فنية، صقلها بتفاعله التلقائي مع شيوخ وشيخات العيطة العبدية، دون أن يتخلص من "جينات الفرح" التي ورثها وهو ينمو بين حقول ومراعي منطقة اثنين الغربية، معقل سنابك الخيل، وغناء الماية النسائية بأرض دكالة.
جالسته "أنفاس بريس" بزاوية العيطة في محراب الفن بدار الشيخ جمال عابدين الزرهوني، إنسان محبوب ببساطته، مرهف الحس، يمتاز بأذن موسيقية قادرة على التقاط الجميل وتسخيره في تطوير العزف والغناء، وغربلة النشاز والشوائب العالقة بها، "لقد أطربني العزف على الآلات الوترية، وتشابكت عروقي مع الأوتار، وانصهرت روحي وذاب قلبي كليا مع نبضات الآلة الوترية، وامتزجت بصور الرقص مع الغناء في الأفلام الهندية والمصرية، فغصت باحثا بين أوتار "المصران" عن إمكانية "تنزيل" مقاطع غنائية وتلقيحها فنيا مع أنماط موسيقية وغنائية، مصرية وهندية، وعملت على تبييئها مغربيا على مستوى الغناء الشعبي، فوفقني الله في هذا العمل"، يقول السي عبد الرحيم الجبلي.
لقد تورط الجبلي الدكالي في عشق الأنماط الغنائية المصرية والهندية حد الجنون، وصنع منها لنفسه إبداعا على مقاس تطلعاته الفنية، وشيد في الوسط الفني وخلق لدى الجمهور المغربي جسرا للغناء الشعبي ما زال يعبره العديد من الفنانين الشعبيين إلى اليوم، وظلت كلماته وألحانه الشعبية شامخة تتربع على عرش الأغنية الشعبية التي تألقت بها سواء الشيخة الراحلة الحامونية، أو أيقونة فن العيطة فاطنة بنت الحسين، وكذلك الشيخة الرائعة خديجة مركوم، والعديد من الشيوخ سواء بأسفي أو الدار البيضاء ومدن أخرى.. على هذا الأساس يقول الشيخ عبد الرحيم الجبلي "أكيد أنني لم أنصف لأن الإعلام والوسط الفني يبحث عن النجوم، ولا ينقب على الظواهر الفنية القابعة وراء الستار، لكن أحمد الله على أني قدمت أعمالا يشهد لها وبها رواد الفن الشعبي من أمثال الشيخ جمال الزرهوني، وخديجة مركوم، والسي محمد ولد الصوبا، وآخرين..... بل أنني رافقت وصاحبت الباحث الشامخ الأستاذ بوحميد وتعاملت معه على مستوى تلقين العزف على آلة الكمان".
هنا يؤكد الشيخ جمال عابدين الزرهوني على أن السي عبد الرحيم الجبلي تنطبق عليه قولة "الشيخ حْلاوْتو في فمو وفي صْباعوا"، حيث تتلمذ على يديه كبار العازفين والفنانين الشعبيين، من مختلف مناطق المغرب، والدليل أن ابنه علي الجبلي أمهر عازف على آلة العود ويشتغل مع عملاق الطرب الشعبي عبد العزيز الستاتي.. وللغوص كثيرا في أعماله الخالدة السهلة والممتنعة، قال الجبلي لـ "أنفاس بريس" بفرح كبير، وهو يسترجع تاريخ استيحائه الموسيقي والغنائي والإيقاعي "لقد توفقت في الاشتغال سابقا على مقاطع غنائية وموسيقية لفنانين كبار، من مصر والهند وإيران، وحولتها إلى مقاطع فنية شعبية مغربية تغنت بها الشيخة فاطنة بنت الحسين مثل أغنية "ها هي جاتك يا لوليد" وأغنية "وحدانية" التي استلهمها من أغنية "وحداني" لفريد الأطرش بطلب من فاطنة بنت الحسين لأنها كانت تعيش وحدانية، كما كتب كلمات أغنية للشيخة الحامونية بعنوان "ونا ونا ..أنا يا نا"، بالإضافة للشيخة مركوم خديجة، ولم ينسى الأغنية التي كتبها ولحنها "اعطيني خاطرك الزين" والتي استلهمها واستوحى غنائها من الموسيقى الإيرانية ".
وفي نفس السياق المرتبط بتقديم هذا الرجل العصامي المغبون فنيا في الوسط الإعلامي والفني يكفي أن نتحدث عن اكتسابه لمهارات تقنية الإيقاع والميزان، وارتفاع منسوب عشق الموسيقى بمختلف أنماطها في شرايين قلبه كخزان للإبداع، يقول عبد الرحيم الجبلي الدكالي "إن نبضات القلب هي القياس الأساسي لكل الإيقاعات والموازين عالميا، مثلها مثل دقات عقارب الساعة ـضربات القلب، بحال ضربات المكانةـ وهي المؤسس الحقيقي للإيقاع والميزان المصاحب لكل الأنماط الغنائية، وهي معبر لفهم معنى، وضبط الموازين وقياساتها، لأن القلب منبع الإحساس والوجدان، والزمن الموسيقي والغنائي لا يمكن أن يتجاوز مساحات دقات القلب وعقارب الساعة ".. وقدم لنا الرجل نماذج رائعة على قياسات نبضات القلب متنقلا بين أغلب الأنماط الغنائية وموسيقاها الساحرة سواء في الغناء العيطي، والمغربي الأصيل، أو الفن الشعبي، أو الموسيقى العربية، و الهندية والإيرانية.
الغريب في الأمر أن المبدع عبد الرحيم الجبلي هو الذي ألف موسيقى ما يسمى ب "الخيلاز" التي استوحاها من الموسيقى الهندية في فيلم "مانكالة البدوية"، والتي يعزفها كل الفنانين الشعبيين بالمغرب، وموسيقى "الخيلاز" هي معبر للفرح و الرقص والتعبير الجسدي في أبهى تجلياته، وهو عزف سريع قد يسميه البعض ب "التعريضة" والتي تعزف لخروج المجموعة الموسيقية من الغناء لإنهاء "الوجبة" الغنائية وإعطاء فرصة للمتلقي/ الجمهور للرقص والتعبير عن الفرح بالجسد.
الحديث عن الجبلي دو شجون، وخصوصا لما تحضر فيه قراءات زجلية من كتاباته الرائعة، وهو يوثق للطبيعة، والفروسية، والبادية، وعلاقة المرأة بالمجتمع الزراعي، والرياضة، والعلاقات الاجتماعية في الزمن الجميل، عبد الرحيم الدكالي، فنان يستحق التفاتة من القائمين على شؤوننا الثقافية والفنية والإعلامية، رجل يستحق لحظة وقوف لقراءة مساراته الإبداعية والفنية، والاعتراف به كموكن أساسي في تراثنا الفني الشعبي على جميع المستويات.
شكرا لأخي السي أحمد فردوس على هذه الالتفاتة الغنية