فى مقابله مع صديق قديم أخبرته أننى لم أتمكن أن أهتف مع الهاتفين " يسقط يسقط حكم العسكر" فباغتنى بالقول أنه كان نفس إحساسه, فهو أيضا لم يستطع الهتاف هكذا رغم تصدره لإحدى التظاهرات الكبرى وموقعه كقيادى معارض.
بالقطع إتفقنا على جواز بل وواجب الهتاف ضد المشير , والمجلس العسكرى. فالخطايا والجرائم التى إرتكباها ومازالوا يرتكبوها باتت أكبر من أن تعد أو تحصى.
لكن العسكر والشعب فى مصر إندمجا تماما منذ أنشأ "محمد على" جيشه المصرى ولأكثر من مائتى عام.
إندمج خلالها القهر مع العلم , الوطنيه مع الإستبداد , التعليم والتصنيع مع السخره والإغتراب , فى مزيج عجيب حوله "محمد على" وإبنه "إبراهيم باشا" إلى إسطول وجيش إسطورى من الفلاحين المصريين.
غزا به مجاهل أفريقيا , وإقتحم جزيره العرب, ودق به أبواب الأستانه , حتى نهضت الدول الأوروبيه الكبرى لتقف فى وجه طموحات هذا الجيش ومآرب زعيم مصر ووريثه العسكرى الفذ .
وغنى عن القول أن حكم أسرة محمد على لمصر هو حكم عسكرى بالأساس, حيث إستمد "محمد على" شرعيته من كونه قائد عسكرى, ورث حكما عسكريا للمماليك الذين كانوا أقل منه حنكه وتنظيم.
لذلك فالقول أن حكم العسكر بدأ فى مصر منذ ستين عاما قاصدين بذلك ثوره يوليو هو قول يجافى الحقيقه والواقع المصريان تماما. فالدوله الحديثه فى مصر أنشأها "محمد على باشا" صنو للجيش, ولم تتبلور القوى المدنيه الحديثه فى البلاد إلا بعد حوالى المائه عام من إنشاء "محمد على" دولته, مع إزدهار التعليم المدنى والمدارس العليا وعودة المبتعثين من أوروبا والذين كانوا بالأساس مبتعثين لخدمه الأهداف العسكريه.
لذلك لم يكن غريبا أن يقود الفلاح المصرى الضابط "أحمد عرابى" أول ثوره حديثه ضد الإحتلال الإنجليزى وفاءا لبلاده ولمؤسس جيشها "محمد على" ضد الحفيد الذى لم يفهم هذه المبادىء "الخديو توفيق".
أما الإنجليز وبدهائهم فقد عمدوا إلى وأد طموحات هذه الدوله الفتيه وخنق أمانيها بإضعاف الجيش المصرى وإبعاد القوى الشعبيه الحقيقيه عنه.
لكن هذه القوى الشعبيه والوطنيه لم تلبث وأن قامت بواجبها تجاه الوطن أحسن قيام وأشعلت ثورة 1919 العظمى والتى كان من إرهاصاتها إلغاء الحمايه وقيام دستور 23 . والتى مهدت الطريق الحقيقى لقيام دوله مدنيه حديثه فى مصر.
وليس من قبيل المصادفه أنه وحين فتح المجال لأبناء الشعب فى بداية الثلاثينيات للإلتحاق بالجيش المصرى, أن إنضم إليه بعض أكثر شباب هذه البلاد وطنيه وإخلاص. وليس من قبيل المصادفه أيضا أن يعى "الملك فاروق" تماما ماذا يمثل هذا الجيش بالنسبه لأسرة "محمد على" فهو الحامى والحارس للأسره والعرش منذ أنشأه الجد. وليست مصادفه أن يقوم "فاروق" فى أخريات أيامه فى الحكم بتقديم وريثه الرضيع "أحمد فؤاد" هديه للجيش.
ولعله كان من الأوفق للبلاد و للفاروق أن يذعن للإراده الشعبيه ويترك تشكيل الوزارات فى مصر للحزب صاحب الأغلبيه الحقيقيه, مفسحا الطريق لتبوء الدوله المدنيه والإراده الشعبيه زمام الأمور, بدلا من الإرتكان إلى شرعيه عسكريه قديمه لأسرته.
لكنه بدلا من ذلك عمد لإغراق البلاد فى فوضى أحزاب القصر والأقليات والتى أظنها السبب الرئيسى فى ماتواجهه مصر من مشكلات حتى الأن !
أوصل "فاروق" مصر إلى مرحلة اللاعوده وكان من الطبيعى أن تتحرك القوه الرئيسيه فى البلاد. قاد جيش الفلاحين المصرى الثوره, فأثبت مرة أخرى أنه أكثر وفاءا لمبادىء "محمد على" من حفيد أخر!
وظهر "جمال عبد الناصر" كزعيم وطنى لا يشق له غبار. ألهم جماهير الشعب بمصر فتيه حديثه, قاد معارك على كافة الأصعده والإتجاهات. ولسنا هنا بصدد تقييم التجربه الناصريه, ولكنه بالتأكيد قول يجافى المنطق والحقيقه القول أن حكم "عبد الناصر" هو حكم العسكر, وإلا كان حكم العسكر هو الأكثر شعبيه فى خمسينيات و ستينيات القرن الفائت.
قول ربما يجافى مراد أصحابه المتأئرين بتجارب حكم العسكر فى أمريكا اللاتينيه وتركيا , والبعيده عن حقيقه وتاريخ الواقع المصرى.
بل أن الواقع والتاريخ يدلان على وقوع إستقطاب حاد بين المؤسسه العسكريه فى مصر والتى قادها "المشير عبد الحكيم عامر" فى ستينيات القرن الماضى وبين مؤسسه الدوله المدنيه التى قادها "عبد الناصر".
ولعل البلاد لم تقترب من صيغة الحكم العسكرى بمفهوم أمريكا اللاتينيه أكثر من محاولة فريق المشيرعامر فرض "شمس بدران" كرئيس للجمهوريه بعد هزيمة 67, إلا أن عبد الناصر إنحاز لإختيار "زكريا محى الدين" المدنى بإمتياز رغم خلفيته العسكريه لهذا المنصب.
وفى كل الأحوال كان للشعب المصرى إختياره المستقل والذى جب كلا الإختيارين!
كما أنه لا يمكننا أن نعتبر ضابط سلاح الإشاره والذى قضى سنوات خدمه قليله فى الجيش "أنور السادات" حاكما عسكريا هو الأخر. فالسادات رغم تباهيه بالبدله العسكريه كان بالقطع حاكما مدنيا إعتمد فى حكمه على الشرعيه الشعبيه لثورة يوليو.
بالتأكيد لم يكن حكم كلاهما تعبيرا عن توجه مدنى ديموقراطى طبقا للمعايير الليبراليه, وتبوأ العسكريون فيه مناصب مدنيه لم يستحقوها فى أغلب الأحيان, ولكنه أيضا لا يمكن أن يوصف بالحكم العسكرى.
أما حسنى مبارك, فرغم وعيه بدور الجيش المحورى فى البلاد, فقد إعتمد كلية فى حكمه على قوى الأمن الداخلى, ذلك إذا تجاوزنا بالقول أن ما فعله بمصر فى ثلاثين سنه كان "حكما" بأى شكل من الأشكال!
ونصل هنا إلى مربط الفرس, فحسنى مبارك فى إدارته للدوله المصريه خلق وضعا شاذا خبره الجيش المصرى فتره الإحتلال الإنجليزى وهو وجود قيادات شاخت فى مناصبها مع عدم وجود دماء جديده.
الوضع الذى بات واضحا فى إربعينيات القرن الماضى, فالدفعات الجديده من الضباط الشبان إصطدموا مع قيادات هرمت فى مواقعها. فكانت معركة إنتخابات نادى الضباط الشهيره. وكان تكوين تنظيم الضباط الأحرار داخل الجيش رد فعل طبيعى لهذه الفجوه.
ولعله من المناسب هنا تذكير أصحاب الرأى القائل أن المجلس العسكرى والجيش شىء واحد, أن "حيدر باشا" قائد الجيش المصرى ورئيس ما كان يشبه المجلس العسكرى إبان ثورة يوليو 52 كان له أكثر من قريب من أعضاء فى تنظيم الضباط الأحرار الذى أطاح به.
وعلينا أن نذكرهم أيضا أن الجيش فى ذلك الوقت ثار على قياداته وعلى مجلسه العسكرى الذى لم يكن أبدا جزء حقيقى من الجيش. وطالعتنا صحف 24 يوليو 1952 بخبر يقول:
"الجيش يقوم بحركة عسكرية سلمية كرد فعل لتصرفات غير مسئولة لعدد من كبار ضباط الجيش. وقد اجتمع القائمون بالحركة واللواء محمد نجيب وقرروا قيام الجيش بإجراء إصلاحات يرونها ضرورية من ضمنها إبعاد العناصر الفاسدة فى الجيش".
ورغم إختلاف الأزمنه والأحداث والظروف, خلق مبارك نفس الفجوه كما فى البلاد كما فى الجيش. قيادات شاخت وهرمت فى مناصبها, ومجلس عسكرى جله من الشيوخ.
ضباط وجنود شباب فى زمن لم يعد فيه للإنقلابات العسكريه مكان . يقوم المجندون منهم بأداء الواجب الوطنى دون مقابل إلا شرف الإنتماء للجيش الوطنى مع ضباط وصف ضباط هم فى أفضل الأحوال من ذوى الدخول المحدوده.
ومجلس عسكرى وكبار ضباط من ذوى الدخول الفلكيه, وإن كان من الإجحاف عدم الإعتراف يكفاءة ومهنية بعض أفراده. إلا أن التسلسل القيادى الصارم , يخنق المجال لمثل هكذا كفاءات.
وفى هذه الأجواء إندلعت ثورة 25 يناير.
ولعل بعض قيادات المجلس العسكرى قد قامت بخيانة واجبها المهنى مرتين. أولهما قبل ثورة يناير حين سمحت لرئيس الجمهوريه بالعبث بالدستور والنظام الجمهورى, وترك البلاد كضيعه منهوبه لأبنائه وأصدقاء أبنائه. لقد كان الواجب يحتم على هذا المجلس وقياداته التنبيه وبمنتهى الصرامه إلى رفضها لهذا العبث بالوطن, الأمر الذى لو تم فى حينه لوفر على البلاد والعباد آلاف الأرواح الزكيه وخسائر بالمليارات.
لكن هذا المجلس, الذى يتسأل بعضهم بتعجب, ماذا نفعل بدونه, لم يقم بمسئولياته حينذاك وأهدر الوقت والجهد والمال وقبلهم الدم المصرى الغالى.
أما المره الثانيه, فكانت بنقض العهد للثوار بحماية ثورتهم الفتيه, فإذا بهم ينقلبون إلى أعداء صرحيين للثوره وشبابها.
إن عسكر مصر هم شعب مصر, وجيش مصر سيظل دائما جيش الشعب.
أما بعض هذه القيادات الهرمه فى المجلس العسكرى, فهى لا تمثل الجيش إلا بنفس القدر الذى مثله المخلوع مبارك.
ما نراه ونعايشه الأن ليس حكما للعسكر.. بل حكم المجلس العسكرى..
فليسقط المجلس العسكرى الذى خان الثوره والبلاد والعباد...