فى آعقاب ثورة يناير إتصل بى بعض الأصدقاء القدامى وقابلت البعض الأخر مصادفة وبروايات مختلفه أشاروا بسعاده إلى رأيى القديم فى إستحالة وصول جمال مبارك إلى السلطه فى مصر. والواقع أننى لم أمل أبدا من إبداء هذا الرأى الذى كان يقابل بالتعجب أحيانا والسخريه أحيانا أخرى فالجميع كان متيقن من أن ذلك قدر لا مفر منه.
على أننى دائما ما إعتقدت أن وصول جمال مبارك إلى السلطه يقتضى إمتلاكه شرعيه ما تؤمن له هذا الطريق. وهى إما شرعيه دستوريه لا ولم يكن ليمتلكها بأى شكل, أو شرعيه شعبيه وهو ما إفتقده تماما بل وعلى العكس كان شخصا منفرا بالطبيعه, أو أخيرا شرعية القوه, كأن تحميه قوات مسلحه تؤمن صعوده أوحزب شمولى إرهابى يدعمه كبعث سوريا والعراق, وهو الشىء الغير متوفر فى حالته أيضا.
على أن ما لا قد يعرفه الأصدقاء, أنه رغم تحمسى الشديد لرأيى هذا وإقتناعى به , فإن هاجس صعود جمال مبارك إلى السلطه فى مصر كان يؤرقنى ليل نهار..
وحينما عدت إلى بعض مقالات المدونه بعد ثورة يناير وجدتنى أحذر وبالإسم المشير طنطاوى والفريق عنان فى 13 فبراير من أن يظنا أن الشعب المصرى سيقبل مرة أخرى وبأى شكل حكما فرديا مهما كانت المسميات. وفى مارس 2011 أبديت دهشتى من رغبة وإلحاح العديد من القوى المدنيه المستنيره فى بقاء المجلس الأعلى فى السلطه. حيث تيقنت من أن إنتقال السلطه إلى هيئات مدنيه وسريعا هو أسلم الطرق وأقصرها لمصر حديثه.
وكان ومايزال رأيى أنه من غير المعقول أو الملائم الشروع فى إعداد دستور جديد للبلاد. فالدساتير تنشأ فى أوقات الإستقرار والسلام الإجتماعى لتنظيم علاقات فئات وطوائف المجتمع ببعضها البعض وعلاقتها بسلطه الحكم و نوعيه العقد الإجتماعى وتوازن القوى والمصالح المطلوبه بين جميع الأطراف.
وفى ظروف الفوران والغليان التى تموج بها البلاد بعد عشوائيه سحيقه ضربت أركان المجتمع لأجيال عديده , يصبح من المستحيل كتابه دستور دائم, حتى لو ظن صانعوه أنه سيكون دائما. بل ينبغى بدلا من ذلك الإحتكام إلى دستور مؤقت أو إعلان دستورى, يستمر لفتره من ثلاثه إلى خمسه أعوام.
فتره كافيه لبلوره قوى وتوازنات المجتمع , والبدء عندئذ فى إعداد دستور دائم على أسس مستقره وتحت ضغوط أقل توترا وأكثر هدؤا من كم الإنفعالات والإستقطاب الحالى.
ورغم ذلك فإننى وفى أسوء كوابيسى لم أكن أتوقع أن يكون أداء المجلس العسكرى بهذا القدر من التخبط والعشوائيه. وما يؤلمنى بشكل خاص هو أن هذا التخبط فى أغلب الظن غير متعمد, بل ويحمل العديد من النوايا الحسنه!
فخريطة الطريق التى رسمها المجلس وفى قلبها كارثة "الإنتخابات أولا" كانت بداية بوصلة الإتجاه إلى الهاويه التى يجب علينا جميعا التكاتف لتجنبها.
فإجراء إنتخابات بدون دستور دائم أو مؤقت أو إعلان دستورى يحدد أسس ومبادىء المجتمع ودور وكيفيه أداء المؤسسات التشريعيه والتنفيذيه لمهامها هو نوع من الهزل فى موضع الجد.
وإذا كانت هناك إنتخابات من الممكن إجرائها أولا فكان من الواجب أن تكون إنتخابات لأعضاء جمعيه تأسيسيه لوضع دستور, بعد تحديد مهام ومواصفات أعضاء هذه الجمعيه لتكون معبره عن كافه طوائف وأركان المجتمع.
الكارثه الثانيه التى تدفعنا بقوه نحو الهاويه, هى السماح بتأسيس أحزاب على أساس دينى. ولا أعنى هنا حزب الإخوان المسلمين المسمى الحريه والعداله, فالإخوان المسلمين ومنذ نشأتهم هم فصيل مسيس يرتدى دائما عباءة الدين. إننى أعنى هنا الأحزاب السلفيه التى تنتمى إلى تيار يعرف الجميع علاقاته المشبوهه داخليا وخارجيا, والذى وقف موقفا مبدئيا معادى لثورة يناير منذ البدايه. إن السماح بإنشاء مثل هذه الأحزاب ليس فقط مخالفه صريحه للقانون الذى يحظر إنشاء أحزاب على أساس دينى, بل وجريمه ستدفع مصر ثمنها غاليا عاجلا وأجلا.
الكارثه الثالثه وهى فى رأيى بالغة الأهميه, ويشترك فيها كل من المجلس العسكرى مع النخبه السياسيه, فهى هذا التقسيم العشوائى وغير المتوازن للدوائر الإنتخابيه فى البلاد لكى يلائم وبإسلوب فج قواعد القوائم النسبيه.
وهنا يجب أن ننتبه إلى أن كل بلاد العالم مرت بمراحل تاريخيه من التطور الديموقراطى, أدت فى النهايه وبطرق مختلفه إلى الوصول الى أكثر الطرق ملائمه لكل دوله. وفى مصر لا يجب أن نغفل الدور الهائل الذى قامت به الطبقه الوسطى فى تنميه وتطوير هذه البلاد. وما كان للنهضه الثقافيه والعلميه والفكريه فى أغلب بلاد المشرق والمغرب العربيين أن تتم دون حركة التنوير التى إنبعثت من هذه البلاد فى أواخر القرن السابع العشر وأوائل القرن الثامن عشر وحتى الأن. بل أن التأثير الفكرى والفلسفى لهذه النخبه المنبثقه من الطبقه الوسطى المصريه أمتد أثره إلى أبعد من ذلك فى بلدان مثل الهند وتركيا وباكستان, بل وآمريكا اللاتينيه.
إن هذا الدور الحيوى والتاريخى لهذه الطبقه وخاصه بعد ثوره ملهمه قامت بها وألهمت العالم كله كانت يستحق وبجداره نوع من التمييز الإيجابى, فى قواعد الدوائر الإنتخابيه يضمن لها تمثيلا مميزا فى البرلمان القادم.
لكن المجلس بخطيئه تقترب من الحماقه قام بتقسيم الدوائر بطريقه تجعل من المستحيل على هذه الطبقه ضمان أى تمثيل ملائم فى البرلمان, الذى سيأتى معبرا عن طبقات أقل حظا فى التعليم والثقافه وبالتأكيد أقل وعيا الأمر الذى يسير بنا لا محاله فى طريق مضاد لحركة التاريخ.
طريق لا يمكن أن يصل بنا إلى أى مكان غير الهاويه..
إننى أكاد أرى ومن الأن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فى مجلس الشعب وهم يحاولون فرض رؤياهم وفهمهم لكيفية إنشاء دستور البلاد على جموع أفراد الطبقى الوسطى المصريه ونخبتها بل وطليعتها الثوريه , التى فتحت لهم أبواب الحريه.
أرى أصواتهم تجلجل فى البرلمان بأن مخالفة آرائهم هو "إلتفاف على إراده الشعب"!! المقوله التى تذكرنى بكلاسيكيات لينين من قبيل الإمبرياليه أعلى مراحل الرأسماليه..
إن إستمرار الإنتخابات بهذه الطريقه وتلك الكيفيه سيوصلنا إلى مجلس شعب غير متوازن لا يعبر عن حقيقه القوى والصراعات الطبقيه والفكريه فى المجتمع. مجلس برلمانى لا يمثل فيه الملايين من الذين قاموا فعلا بثورة يناير وغيروا إلى الأبد شكل مصر والعالم.
وفى هؤلاء فقط أثق
أننا يمكننا أن ننجو جميعا ولو فى أخر لحظه ...من الهاويه