من سنوات عديدة قرأت كتاب جولدا مائير "حياتى" و الذى تروى فيه قصة حياتها منذ طفولتها المبكرة فى روسيا مرورا بهجرة عائلتها إلى الولايات المتحدة ثم نزوحها إلى فلسطين و عملها السياسى و الإجتماعى المكثف هناك. تحكى مائير عن العيش فى الكيبوتزات , زواجها وإنفصالها ,أولادها و إنخراطها فى العمل التنظيمى , علاقتها ببن جوريون , أشكول وديان وغيرهم و حتى وصولها لمنصب رئيسة الحكومة.
ورغم أننى قرأت الكتاب بروح العدو الذى يريد أن يفهم, إلا أننى أعترف أن بعض أجزاء الكتاب أثارت إعجابى الشديد, و بعض الأحداث أفهمتنى لماذا إستطاع الصهاينة الأوائل إقامة دولة تضمن لليهود الحد الأدنى من الحرية و العدالة و تداول السلطة.
ولعل ما لفت إنتباهى بشدة هو شخصية جولدا مائير نفسها. لقد ولدت سياسية , خلقها الله لتعمل بالسياسة. قدر لا فكاك منه حتى لو ارادت تغييرة. وهكذا أصبحت هذة السيدة التى لا تحمل أكثر من الشهادة الثانوية رئيسة لوزراء إحدى الديموقراطيات فى العالم.
وبدأت أتسآل, هل السياسة موهبة تولد مع الإنسان أم أنها تكتسب بالتجربة و الخبرة. وبنظرة سريعة الى التاريخ وإلى الحاضر, إلى الجفرافيا المحيطة بنا والى العالم يمكننا أن نلاحظ أن التجربة والخبرة والظروف المحيطة بل والحظ أيضا كلها عوامل هامة للغاية ولكن لا يمكن لها أن تخلق سياسى حقيقى ما لم توجد الموهبة سواء بشكل ظاهر او بصورة مستترة.
والأمثلة عديدة لا علاقة لها بالثقافة أو الجنس أو الخلفية الإجتماعية فونتسون تشرشل ينحدر من أسرة أرستقراطية على حين أتى كلينتون من أوساط الطبقات العاملة. وفى حين تحمل مارجريت تاتشر شهادة جامعية فى الكيمياء فإن خليفتها جون ماجور لم يدرس أكثر من ما يعادل دبلوم التجارة فى مصر ولكن ما يجمع الجميع هو وجود الموهبة السياسية.
وليس بالضرورة أن تكون هذة الموهبة السياسية نعمة, بل يمكن بسهولة أن تكون نقمة وخاصة فى الأنظمة السلطوية و المستبدة والأمثلة عديدة بدءا من لينين و هتلر وصولا إلى حافظ الأسد وصدام حسين.
إلا انه وفى كل الأحوال لابد أن يتمتع الحاكم (أى حاكم) بمثل هذة الموهبة.
وإذا نظرنا الى مصر سنجد أن فترات النهوض والحركة و الفوران السياسى سواء بشكل إيجابى أو حتى سلبى إرتبطت بوجه عام بوجود الموهبة السياسية , فى حين إرتبطت فترات الجمود و الإنحسار والتراجع بوجود حكام ذوى مواهب سياسية ضعيفة أو حتى منعدمى هذة الموهبة. وربما يفسر هذا إنحسار الدور المصرى الشديد التوهج عصر "محمد على" أثناء حكم أبناءة إذا إستثنينا الموهوب الأخر فى العائلة العلوية "إسماعيل باشا".
وإذا نظرنا الى حالة مصر بتعمق أكبر , خاصة فيما يطلق عليه المرحلة الليبرالية بين 1919 و 1952 سنجد أن هذة الفترة والتى تميزت بقدر ما من الحرية ليس فقط السياسية ولكن بشكل اهم الفكرية والعقلية كنتاج لحركة التنوير منذ الحملة الفرنسية مرورا بالبعثات التعليمية إلى الخارج وحتى تنامى الوعى الوطنى والتسامح الفكرى والدينى مع ثورة 19. سنجد أن هذة الفترة أنجبت عدد وافرمن السياسيين الحقيقيين فى كافة الأصعدة ومن مختلف المشارب.
فهل يستطيع أن ينكر أحد الموهبة السياسية لدى "سعد زغلول" المنفتح ذهنيا و "مصطفى النحاس" الشديد الطيبة, لدى "النقراشى" التقليدى الهوى و "إسماعيل صدقى" الإدارى الفج , لدى الشيخ "حسن البنا" مؤسس الإخوان المسلمين و "أحمد حسنين" رجل القصر الماكر بل أنه حتى الملك فاروق نفسة بكل مهاتراتة لم يخلو من بعض هذة الموهبة .
حتى كانت ثورة 1952 وأتى الضباط الأحرار إلى الحكم, خليط من الشباب المتحمس و الوطنى. جمعتهم أهداف وطنية نبيلة أو على الأقل ذلك ما أرادوه وتخيلوه.
لقد قيل الكثير عن أزمة مارس 54 وخروج محمد نجيب من الحكم ولكن كان من الطبيعى ألا يستطيع اللواء نجيب الذى تخطى الخمسين والمحدود الموهبة الصمود أمام هذا الشاب المتفجر موهبة سياسية حتى ولو كان بكباشى فى الرابعة والثلاثين. لذلك خرج جمال عبد الناصرمن هذا النزاع منتصرا. الواقع أن قيادة الضباط الأحرار كانت خليط فى هذا المضمار , فبعضهم إمتلك حس سياسى عالى كعبد الناصر وزكريا محى الدين و البغدادى مرورا بأنور السادات وبعضهم تراجع عنده هذا الحس كحسن إبراهيم و جمال سالم على حين إفتقرالبعض الأخر لأى موهبة سياسية حقيقية كعبد الحكيم عامر. لذلك كان لتبوء هذا الرجل مناصب بالغة الأهمية أثار كارثية ليس فقط على مصر بل و المنطقة العربية ككل. فعبد الحكيم عامر لم يفتقد هذة الموهبة فحسب بل تصرف محاولا إيهام نفسة والأخرين أنه يمتلكها لذا كانت الكوارث دائما مضاعفة.
على أية حال فإنة مع تنامى شعبية "عبد الناصر" الكاريزمية وحسه الساسى و الأمنى العالى تراجع بشكل كبير تواجد سياسيين حقيقيين , إلا أنه ظل تراجع و ليس إنعدام. بالطبع قل عدد من أفرزتهم الحقبة الناصرية من سياسيين مقارنة بالحقبة الليبرالية إلا أن توجهات الثورة إنجازاتها فى مضمار الحراك الإجتماعى و دخول أعداد كبير إلى نطاق الطبقات الوسطى وصدام الثورة مع أعدائها أفرز أجيال سياسية ذات توجهات إشتركية وأخرى دينية أكثر من كونها توجهات ليبرالية.
ولعل عبد الناصر كان هو أول سياسى توسع فى الإعتماد على التكنوقراط وأساتذة الجامعة فى حكوماته -وليس فى حكمه-
ورغم أننى قرأت الكتاب بروح العدو الذى يريد أن يفهم, إلا أننى أعترف أن بعض أجزاء الكتاب أثارت إعجابى الشديد, و بعض الأحداث أفهمتنى لماذا إستطاع الصهاينة الأوائل إقامة دولة تضمن لليهود الحد الأدنى من الحرية و العدالة و تداول السلطة.
ولعل ما لفت إنتباهى بشدة هو شخصية جولدا مائير نفسها. لقد ولدت سياسية , خلقها الله لتعمل بالسياسة. قدر لا فكاك منه حتى لو ارادت تغييرة. وهكذا أصبحت هذة السيدة التى لا تحمل أكثر من الشهادة الثانوية رئيسة لوزراء إحدى الديموقراطيات فى العالم.
وبدأت أتسآل, هل السياسة موهبة تولد مع الإنسان أم أنها تكتسب بالتجربة و الخبرة. وبنظرة سريعة الى التاريخ وإلى الحاضر, إلى الجفرافيا المحيطة بنا والى العالم يمكننا أن نلاحظ أن التجربة والخبرة والظروف المحيطة بل والحظ أيضا كلها عوامل هامة للغاية ولكن لا يمكن لها أن تخلق سياسى حقيقى ما لم توجد الموهبة سواء بشكل ظاهر او بصورة مستترة.
والأمثلة عديدة لا علاقة لها بالثقافة أو الجنس أو الخلفية الإجتماعية فونتسون تشرشل ينحدر من أسرة أرستقراطية على حين أتى كلينتون من أوساط الطبقات العاملة. وفى حين تحمل مارجريت تاتشر شهادة جامعية فى الكيمياء فإن خليفتها جون ماجور لم يدرس أكثر من ما يعادل دبلوم التجارة فى مصر ولكن ما يجمع الجميع هو وجود الموهبة السياسية.
وليس بالضرورة أن تكون هذة الموهبة السياسية نعمة, بل يمكن بسهولة أن تكون نقمة وخاصة فى الأنظمة السلطوية و المستبدة والأمثلة عديدة بدءا من لينين و هتلر وصولا إلى حافظ الأسد وصدام حسين.
إلا انه وفى كل الأحوال لابد أن يتمتع الحاكم (أى حاكم) بمثل هذة الموهبة.
وإذا نظرنا الى مصر سنجد أن فترات النهوض والحركة و الفوران السياسى سواء بشكل إيجابى أو حتى سلبى إرتبطت بوجه عام بوجود الموهبة السياسية , فى حين إرتبطت فترات الجمود و الإنحسار والتراجع بوجود حكام ذوى مواهب سياسية ضعيفة أو حتى منعدمى هذة الموهبة. وربما يفسر هذا إنحسار الدور المصرى الشديد التوهج عصر "محمد على" أثناء حكم أبناءة إذا إستثنينا الموهوب الأخر فى العائلة العلوية "إسماعيل باشا".
وإذا نظرنا الى حالة مصر بتعمق أكبر , خاصة فيما يطلق عليه المرحلة الليبرالية بين 1919 و 1952 سنجد أن هذة الفترة والتى تميزت بقدر ما من الحرية ليس فقط السياسية ولكن بشكل اهم الفكرية والعقلية كنتاج لحركة التنوير منذ الحملة الفرنسية مرورا بالبعثات التعليمية إلى الخارج وحتى تنامى الوعى الوطنى والتسامح الفكرى والدينى مع ثورة 19. سنجد أن هذة الفترة أنجبت عدد وافرمن السياسيين الحقيقيين فى كافة الأصعدة ومن مختلف المشارب.
فهل يستطيع أن ينكر أحد الموهبة السياسية لدى "سعد زغلول" المنفتح ذهنيا و "مصطفى النحاس" الشديد الطيبة, لدى "النقراشى" التقليدى الهوى و "إسماعيل صدقى" الإدارى الفج , لدى الشيخ "حسن البنا" مؤسس الإخوان المسلمين و "أحمد حسنين" رجل القصر الماكر بل أنه حتى الملك فاروق نفسة بكل مهاتراتة لم يخلو من بعض هذة الموهبة .
حتى كانت ثورة 1952 وأتى الضباط الأحرار إلى الحكم, خليط من الشباب المتحمس و الوطنى. جمعتهم أهداف وطنية نبيلة أو على الأقل ذلك ما أرادوه وتخيلوه.
لقد قيل الكثير عن أزمة مارس 54 وخروج محمد نجيب من الحكم ولكن كان من الطبيعى ألا يستطيع اللواء نجيب الذى تخطى الخمسين والمحدود الموهبة الصمود أمام هذا الشاب المتفجر موهبة سياسية حتى ولو كان بكباشى فى الرابعة والثلاثين. لذلك خرج جمال عبد الناصرمن هذا النزاع منتصرا. الواقع أن قيادة الضباط الأحرار كانت خليط فى هذا المضمار , فبعضهم إمتلك حس سياسى عالى كعبد الناصر وزكريا محى الدين و البغدادى مرورا بأنور السادات وبعضهم تراجع عنده هذا الحس كحسن إبراهيم و جمال سالم على حين إفتقرالبعض الأخر لأى موهبة سياسية حقيقية كعبد الحكيم عامر. لذلك كان لتبوء هذا الرجل مناصب بالغة الأهمية أثار كارثية ليس فقط على مصر بل و المنطقة العربية ككل. فعبد الحكيم عامر لم يفتقد هذة الموهبة فحسب بل تصرف محاولا إيهام نفسة والأخرين أنه يمتلكها لذا كانت الكوارث دائما مضاعفة.
على أية حال فإنة مع تنامى شعبية "عبد الناصر" الكاريزمية وحسه الساسى و الأمنى العالى تراجع بشكل كبير تواجد سياسيين حقيقيين , إلا أنه ظل تراجع و ليس إنعدام. بالطبع قل عدد من أفرزتهم الحقبة الناصرية من سياسيين مقارنة بالحقبة الليبرالية إلا أن توجهات الثورة إنجازاتها فى مضمار الحراك الإجتماعى و دخول أعداد كبير إلى نطاق الطبقات الوسطى وصدام الثورة مع أعدائها أفرز أجيال سياسية ذات توجهات إشتركية وأخرى دينية أكثر من كونها توجهات ليبرالية.
ولعل عبد الناصر كان هو أول سياسى توسع فى الإعتماد على التكنوقراط وأساتذة الجامعة فى حكوماته -وليس فى حكمه-
ورغم أنه أختار اساتذة جامعة يمتلكون بعض الحس السياسى ك "القيسونى" و "عبد العزيز حجازى" و "مصطفى خليل" ورغم أن هذا الأختيار كان له ما يبرره فى بعض الأحيان كحالة المهندس صدقى سليمان فى مرحلة بناء السد و "عزيز صدقى" فى الصناعة إلا أن هذا التوجه والتوسع فيه كان من أكبر سلبيات المرحلة الناصرية و التى لا نزال نعانى منها حتى الأن. ودعونى هنا احاول أن اشرح وجهة نظرى , فالسياسة موهبة تماما مثل الفن وبهذا المقياس فإننا نجد أن أفضل أفلام عرفتها مصر و العالم أخرجها مخرجين عاديين و ليس أساتذة أكاديميات السينما فى مصر أو العالم. هؤلاء غالبا تنحسر مهمتهم فى التنظير و البحث و التدريس وعادة لا يستطيعون إخراج فيلم واحد ذو قيمة فنية عالية. مثال أخر أساتذة العلوم السياسية سواء فى مصر أو العالم ليسوا فى الأغلب الأعم سياسين محنكين بل هم فى النهاية أكاديميون يضطلعون بدور هام فى تحليل الأحداث و التنظير لها عوضا عن صنعها, وقس على ذلك فى كافة المجالات.
على أية حال توفى عبد الناصر وأركان حكمة خليط من السياسيين والتكنوقراط, إلا أنه ترك رجل سياسى فى قمة الحكم "أنور السادات" الذى حار الكثيرون لماذا أختاره عبد الناصر
وللحديث بقية
على أية حال توفى عبد الناصر وأركان حكمة خليط من السياسيين والتكنوقراط, إلا أنه ترك رجل سياسى فى قمة الحكم "أنور السادات" الذى حار الكثيرون لماذا أختاره عبد الناصر
وللحديث بقية