Saturday, July 08, 2006

(9)

(القسم الثاني)
------------


المقهي مزدحم كعادة كل المقاهي في تلك الآونة من الليالي الصيفية الحارة ، وكعادة كل المقاهي تظل المقهي هي المكان الذي يلجأ اليه من ليس له مكان محدد في وقت محدد ، مثل هذا الذي دلف للمقهي الآن ، ليس بمسن في حقيقة الأمر ، لكن من الواضح أن الدهر أكل عليه وشرب كما يقولون مما أعطاه هذا الطابع المتقدم في العمر ، ومما أعطي ملامحه سمت الستين من العمر ، رغم عدم تجاوزه الخمسين بعد ، ملابسه متسخة من أثر سفرٍ طويل وبالرغم من ملامحه المتسقة إلا أن أمارات الجهد البادية علي وجهه أخفت اتساق ملامحه وتوحي بأنه شحاذ أو ماشابه ، طلب شاياً بلسانٍ مجهد ، أشعل لفافة تبغٍ ملتوية أخرجها من جيب قميصه ، ثم شردت نظراته تماماً لدرجة أنه أفاق ضابطاً نفسه يتحدث بصوتٍ عال وكل رواد المقهي صامتون ينظرون إليه وتحمس البعض والتف حوله ، لم يجد بداً من الصمت فأكمل حديثه " أنا ماكنتش كده ، أنا كنت مدير عام أد الدنيا ، لكن اترفدت بعد ما صدر عليا الحكم ، أنا أصلي لسه خارج من السجن ، والله مانا عارف انا خرجت امتي ، يمكن امبارح ، يمكن أول ، يمكن من شهر أو سنة ، مش فاكر، كل اللي فاكره أني لسه خارج من السجن ، ومراتي ، تصدقوا ، مراتي طلبت الطلاق من المحكمة ، أنا عارفها كويس ، (سامية ) ماكنتش ممكن تعمل كده لو كنت اتسجنت عشان حاجة تانية ، هي عملت كده عشان تنتقم مني لما عرفت أني قتلته"

------------------

فنحي ، انت ماتفرقش حاجة عن منير ، إذا كان هو واطي قراط فأنت واطي اربعة وعشرين قراط ، وإذا كنت كرهته لما راح اتجوز البت الوسخة اللي اسمها (فاطيما) فأنا كرهتك أكتر لما اتجوزتني عشان عارفة انك اتجوزتني عشان تنتقم منه مش أكتر ، وأنا وافقت ساعتها عشان انتقم منه برضه ، بس صدقني يافتحي ، احنا اللتنين أوسخ من منير ألف مرة ...فاهم؟

------------------

عند تذكره هذه النقطة زاغت نظراته ، وبدأ في التفوه بكلامٍ غير مفهوم وظن الجالسون أن روحه سوف تعود إلي بارئها الآن ، وللدقة التي تفرضها علينا أمانة نقل اللحظة يجب أن نقول أن (فتحي) لم يكن من اللذين يسهل استدراجهم إلي الاسترسال في الحديث عن حياته الخاصة ، بل كان دائما كتوماً فيما يختص بمشاعره الخاصة ، كان يعرف دائما متي يكبح مشاعره ومتي يطلق عنانها للسماء ، حتي زملاءه في السجن لم يعرفوا عنه الكثير ، وكل المقريبن اليه كانوا يعلموا جيداً كم يحمل من مشاعر ثلجية لا يسهل استثارتها ابدا ، وعند ادراكه هذه النقطة وثب من مقعده ، فجأة تذكر حقيقته التي غابت عنه خلف اسوار السجن وظلامه الكثيف كأن الظلام تسرب إلي عقله فأخفي عنه تدريجيا ذاته نفسها ، ذاته التي غابت خلف الرداء الازرق ورائحة العرق الممزوجة بالذل الذي ذاقه داخل الغرفات الضيقة الخانقة ، "أنا مش هابقي شاعر بربابة علي اخر الزمن " هكذا قال بصوتٍ جهوري مثلما تعود أن يمارس سلطته علي مرؤوسيه ، ولكن لأن الظرف الان مختلف تماما ، ولأن رواد المقهي اللذين تجمعوا حوله لم يكونوا بمرؤوسيه فقد زادهم هذا حماساً وانطلق بعضهم يتهامس حول هذا الرجل ذو سابقة القتل ، والبعض الاخر قتله الفضول ليعرف " قتلت مين؟" ، وعند هذا السؤال نستطيع أن نقول أن ادراك (فتحي) المفاجيء لحقيقته التي غابت لم يكن ادراكا حقيقيا أو كاملا وكأنه كان ينتظر هذا السؤال بالذات ليعاود الجلوس بانهاكٍ واضح ويعود صوته للانخفاض " قتلت منير ، منير صالح عبد الصمد ، ماحدش هنا يعرف منير أصل منير معروف اكتر هناك ، مافيش بار فيكي يامصر مايعرفش منير ، مافيش غرزة ولا بيت دعارة مايعرفش منير ، مافيش حد في أمن الدولة مايعرفش منير ، أنا بقي اللي قتلت منير ، ايوة ، شجعته عشان يرمي نفسه من فوق ، أول ماجاب سيرة قططه الملعونة ماستحملتش ، افتكرت سامية وقلت في نفسي ان منير لازم يموت دلوقتي ، نط يامنير ...نط

-------------------

كانت (مروة) تعد فنجان القهوة السادس لمنير ، حين دخل عليها منير (المطبخ) أحتضنها من الخلف والتصق بها ، طبع قبلةً طويلة علي رقبتها فابتسمت وهي تلتفت اليه ملتصقةً به أيضا ، "مالك؟لسه ماشبعتش ولا ايه؟" ، لم يرد ، أطفأ نار القهوة ، وأخذها من يدها ، أخذ يفك أزرار فستانها بجنون ، خلع ملابسه سريعاًوانطلق في تقبيلها ، لم يكن هناك غير صوت المطر الخفيف في الخارج وتأوهاتها الخافتة.

------------------

بعد موت منير ، وحين تكلمت مروة مع فاطيما بعد عودتها السريعة من روما ، في جلسةٍ خاصة بينهما ، سألت فاطيما مروة عن معاملة منير الجنسية معها ، كان في الواقع سؤالاً صفيقاً من ناحيتها ، لكن مروة لم تجد غضاضة في أن تقول " منير كان غريب ، كنت باحس اني بنام مع تلات أو اربع رجالة مرة واحدة ، كان بيتعامل مع كل حتة في جسمي علي انه ست كاملة ، كان كأنه بينام مع كل حتة لوحدها ، لما كان بيبوسني كنت باحس اني هايفضل يبوسني لحد ما اموت ، ولما كان بيعضني كنت باحس انه هايكلني ، هايبلعني ، ولما كان بيدخلني كنت باحس انه مش هايخرج ابداً ، ساعات كنت باحبه اوي ، مجنونة بيه ، وساعات كنت باكرهه ، كان غريب" ولاداعي هنا لأن نذكر ارتعاشة فاطيما الواضحة ولا عصبيتها التي زادت وأنها دخنت أثناء كلام مروة مالم تدخنه من سجائر من قبل.

-------------------

بعد الانتهاء من الدفقة الثانية كان منير ومروة مستلقيان فوق تلك الاريكة العريضة في حجرة الجلوس ، ذراعه حول كتفيها ورأسها علي صدره ، "مروة ، انتي هاتعملي ايه لو مت؟" ، " اخص عليك يامنير ليه بتقول كده؟" ، " سيبك بس من كلام الافلام ده ، هاتعملي ايه؟" ، "مش عارفة" ، " انتي تعرفي يعني ايه مرض الاكتئاب يامروة؟ ، "لأ" ، طب تعرفي يعني ايه انتحار؟ ، " منير ، ايه اللي انت بتقوله ده؟ الانتحار حرام " " هه ، واللي احنا بنعمله ده ايه؟ ، تعرفي انا بافكر كل يوم اني ارمي نفسي من البلكونة ، تفتكري الواحد هايحس بايه لو رمي نفسه من بلكونة الدور السابع ، اكيد الهوا هايخبط جامد ف وشه ، وبعدها مش هايحس بحاجة ، ولا تفتكري ان جسمه هايوجعه الاول اول ما يخبط في الارض؟ ، " والله هاسيبك وامشي لو مابطلت الكلام ده" ، "قومي " ، أبعدها عنه بحركةٍ عنيفة ، " لمي حاجتك من هنا وامشي ، ياللا مش عايز اشوفك ، في ستين داهية ، يعني هاتفرقي ايه عن التانيين ، ولا حاجة ، امشي من هنا حالا" ، " لأ يامنير مش ماشية ، مش هاسيبك ، مش هاسيبك تموت نفسك " ، تركها ودخل حجرته وأقفل الباب بقوة.

------------------

لم يكن هناك مايدل علي أن الرجل مجنون ، لذا قفد اكتسب تعاطف الجالسين ، كان من الواضح أنه تعرض لعذابٍ فوق طاقته ، " واللي يعيش يامايشوف" ، هكذا ردد أحد الجالسين بالمقهي ، " يشوف ايه ياحضرة؟ ، انت اصلك ماتعرفش حاجة ، منير ده أخد مني كل حاجة أنا مش ندمان ، لا ..لا ..لا ....، خالص بالعكس ، أنا مرتاح ، لأ ....مش مرتاح ....، سامية ماعدتش بتشوف القطط الميتة خلاص ، انا اللي بقيت كل يوم أصحي من الكابوس ده ، حتي بعد موتك يا منير الكلب مش عارف اخلص من كوابيسك السودة " ، أحضروا له ماء ، أخذوا يحاولون تهدئته عندما انزلقت منه دمعتين رغماً عنه ، " لا حول الله يارب" ، " ماتعملش كده ف نفسك يا استاذ" ، وأشياء من هذا القبيل ، عرض عليه أحدهم بعض الطعام ، فأخذ يأكل بنهم ، طلب لفافة تبغ ، وأرجع رأسه للوراء ، وأغمض عينيه وهو يسحب انفاس اللفافة ، " أنا تايه ، ماعرفش انا فين ، ولا باعمل ايه هنا ، انا بقالي كتير اوي ماشي ، بامشي من اسبوع تقريبا " ، " هو منير ده مين ياباشا؟ " ، قال قائل.

-----------------

" منير ، لازم تعرف انك ماينفعش تكلمني دلوقتي ، مش عايزة اعمل حاجة من ورا فتحي يامنير ، انت عارف اني باهتم بالحاجات دي ، لو سمحت بطل الكلام الفارغ اللي عمال تقولهولي عن الانتحار والموت والكوابيس وسيبني في حالي ، لازم تعرف انك بقيت بالنسبة لي ولا حاجة ، انت ولا حاجة يا منير فاهم؟ ، انا مستعدة انسي كل اللي حصل ، حتي جوازنا اللي كان في السر ممكن انساه لأنه ماكنش جواز اصلا ، كان لعب عيال ، ممكن انسي كل الاهانات اللي انت وجهتهالي انا وعيلتي ، واستغلالك لظروفي ولضعفي ولأفكاري ايامها ، ممكن انسي كل ده يا منير بس ابعد عني ، عايز مني ايه تاني؟ بعد كل اللي حصل اتصلت بيك عشان احاول انتشلك من حياتك اللي ضاعت ومن موت عيالك وهروب مراتك كنت حاسة ناحيتك بشيء من المسئولية بس مش معني ده اني لسه بافكر فيك يا منير ، افهم بقي ، افهم انك ماعدتش زي زمان ، ولا أنا بقيت زي ماكنت ، منير ، ماتحاولش تتصل بيا تاني ، لازم تعرف اني هاستريح اوي لو عرفت انك سافرت لحتة بعيدة ، أو انقطعت اخبارك عني لأي سبب أو حتي مت " ثم وضعت سماعة الهاتف

-----------------

"منير ده واحد ظهر في حياتي فجأة ، أيام الجامعة كانوا بيقولوا عليه شيوعي ، دخل السجن وخرج بطل في عيون كل الناس ، كلهم اتلفوا حواليه ، اتجوز فاطيما ، البنت اللي كنت بحبها من بعيد لبعيد بس ماكنتش اقدر اقولها لأنها كانت غنية اوي وانا كنت فقير اوي ، اتجوزها هو عشان غنية ، استغل مكانة ابوه والبيت اللي ورثه واقنع ابوها انه انسان محترم ، طول عمره وصولي ، اتجوزت أنا سامية عشان انتقم ، وانا عارف انه ماحبش حد في حياته غيرها ، غلطتي الوحيدة اني حبتها ،لكن هي ماقدرتش تنساه ، ماقدرتش ، آه يامنير الكلب ، لو أطول هاموته ألف مرة". وانتفض واقفاً ، رمي بعض القروش علي المنضدة ، وخرج من المقهي جارياً تاركاً ورائه بعض العيون الشاخصة والنظرات المتسائلة.

Posted by Pianist at 3:45 AM 19 comments



Saturday, May 06, 2006

(8)

"أنا الحاجة الوحيدة اللي مش مخلياني عارف أنام .. لما بفتكر بصته الأخيرة ليا .. كأنه بيتمنى أو بيطلب مني إني أمنعه .. إني أقوله لأ يا منير .. بصة غريبة جدا ً .. عينه مليانه دموع و كأنه مش باصصلي .. و شبه ابتسامة واحد عارف إن مافيش فايدة من طلبه .. ما كنتش حقدر أضحك على نفسي أكتر من كدة .. ما كنش حعرف أقولا لأ يا منير!"

قالها (فتحي) و شرد مجددا ً، احمرت عيناه من قلة النوم. أشعل سيجارة جديدة سحب منها عدة أنفاس متلاحقة و تركها على المنفضة لينساها كما حدث مع سابقاتها. بينما ينظر المحامي له بارتباك شديد، صمت قليلا ً ثم تحدث فجأة كأنما وجد أخيرا ً شيئا ً يصلح للقول:
ـ " أستاذ فتحي، يا ريت تهدى شوية و ترتب أفكارك و تحاول تتكلم معايا بوضوح أكتر عشان أقدر أساعدك .. خد وقتك خالص .. اشرب قهوتك .. و كلمني بصراحة .. ليه قتلت منير؟"

يبدأ صدر فتحي في العلو و الهبوط بسرعة تتزايد، كأنه على وشك البكاء، ثما تهدأ أنفاسه كأنما ينجح في السيطرة على انفعاله و يقول بهدوء:
ـ "بس أنا ما قتلتش منير !"
ـ "أستاذ فتحي .. مع احترامي الشديد كدة انت بتصعب الدنيا على نفسك و عليا!! حضرتك أول كلام ليك لما رحت تبلغ عن نفسك في القسم الساعة 4 الفجر كان إنك ارتكبت جريمة قتل .. ده كان نص كلامك .. فياريت تحاول تفهمني .. أنا فعلا ً حاسس إنك مش بتقول كل حاجة"
مجددا ً يشرد فتحي كأنه يسترجع شيئا ً ما في عقله، ثم يأخذ نفسا ً عميقا ً، و يسبل عينيه و يتحدث بهدوء:
- "أنا متلخبط جدا ً .. مش عارف أنا اللي قتلت منير و لا هو اللي قتلني .. و الله ما قادر أحدد إيه اللي حصل .. و حقك و حق أي حد يقول عليا مجنون رسمي و بخرف. عمري ما كنت واثق من إحساس الكره جوايا .. يعني .. بحس إني عمري ما كرهت حد، لكن كرهت منير .. كرهته بكل معاني الكلمة" يصمت قليلا ً و يتطلع لعلبة سجائره قليلا ً قبل أن ينتشل سيجارة و يشعلها على مهل، يقول المحامي كأنه يسد فراغ اللحظة الصامتة:

ـ " أستاذ فتحي، الكره مش مبرر كافي للقتل .. ده لو انت فعلاً قتلت"
- " قلتلك ما قتلتش .. ولا قتلت، فارقة كتير؟ عمرك ما اتمنيت الموت لحد؟ عمرك ما تصورت إنك بتغرز سكينة في قلب حد، و الحاجة الوحيدة اللي بتمنعك هي خوفك من العقاب، سواء دلوقت أو في الآخرة؟ عمرك ما اتمنيت الموت من قلبك لإنسان تاني له نفس حقوقك في الحياة؟ بس اللي منعك عنه خوفك .. و خوفك وحده اللي منعك؟ عمرك ما جربت الإحساس ده؟ عارف .. الإنسان بيتحسب و يتحاسب كقاتل لما يقتل فعلا ً، يعني لما يضرب رصاصة أو يغرز سكينة أو يحط سم أو يخنق أو يفجر أو يقطع إنسان تاني .. لكن الحقيقة .. إن الأمنية وحدها جريمة .. أمنيتك للإنسان بالموت تعتبر جريمة قتل بجد .. أنا قتلت منير من زمان .. أو هو قتلني من زمان .. منير كان عنده كل اللي مش عندي .. من زمان، إنسان محبوب جدا ً .. الواد الشقي الثورجي الكاريزماتيك جدا ً، تكفيه ابتسامة صغيرة لأي إنسان علشان يتحب علطول .. تخيل بني آدم الناس كلها أجمعت في فترة على حبه .. ما ينفعش ما يكونش في حد بيكرهه .. أهه أنا بقى كنت الإنسان اللي كان لازم يكرهه .. علشان مافيش شيء كامل و مافيش مطلق .. كان لازم من وسط كل دول أكرهه .. خصوصا ً لما أتأكدت إن سامية بتحبه"

- "سامية؟" يسأله المحامي مقاطعا ً كأنما التقط خيطا ما، لتزداد نبرة (فتحي) ألما ً و يجيب مقتضبا ً:
ـ "مراتي .. حتى سامية .. أكتر إنسان حبيته في حياتي .. أكتر لحظة فرحت فيها لما عرفت إنها مش حتتجوز منير .. كنت متأكد إنها بتحبه، لكن قلت لنفسي حتنسى، ما حدش بيموت عشان حد، و ما حدش بيفضل يحب حد علطول .. لكن أنا فضلت أحبها علطول، و هي فضلت تحبه علطول .. فيلم عربي مش كدة؟"

يزداد ارتباك المحامي و يجيب مسرعا ً:
ـ " العفو يا أستاذ فتحي .. ما قلتش كدة .. أنا آسف جداً"
ـ " يا سيدي .. ولا يهمك .. ما بقاش فيه أستاذ فتحي .. مالهوش داعي الاحترام ده كله .. انت دلوقت محامي محترم معيناه المحكمة لواحد محبوس على ذمة قضية .. يعني خد راحتك .. تعرف .. بس لما منير مات .. قدرت آخد نفس و أحس إني بتنفس فعلا ً .. كأني طول فترة شبابي و لحد دلوقت عايش تحت ضغط رهيب .. آه عارف و متأكد إن منير ما عمليش أي حاجة عن عمد .. و ساعات بتعاطف معاه بسبب كل اللي حصله في حياته .. و عارف إنه ما كانش بالسعادة دي .. لكن ما تتخيلش قد إيه كنت بفرح بعذابه .. منير كان سارق مني مراتي .. حتى منغير ما يشوفها ولا تشوفه .. كان سارقها مني .. كأني كنت بالنسبة لها تصبيرة أو حد أو حاجة موجودة في حياتها عشان ماتكونش فاضية جدا ً و باردة جدا ً .. عارف إني كنت بالنسبة لسامية مجرد راديو مسلي .. أو شماعة مفيدة .. لكن بسبب منير .. ما كانش ممكن أكون أكتر من مجرد تسلية أو حاجة مفيدة" كأنما اختنقت الكلمات في حنجرة (فتحي)، أو كأنما ليداري ألمه الشديد، ينخرط في نوبة سعال بادي افتعاله، بينما تخونه دمعة ما، لتزداد حالة ارتباك المحامي بما لا يقاس، و لا يجد فعلا ً ملائما ً فيقول:
ـ " أستاذ فتحي .. لولا ضيق الوقت كنت قلتلك نكمل بعدين .. بس أنا فعلا ً محتاج أعرف إيه بالظبت اللي حصل .. فعلا ً أنا مش قادر أجمع من كلامك غير رتوش .. مش قادر حتى أحدد التفاصيل دي مفيدة في القضية ولا لأ .. أنا عايز أعرف بالتفصيل إيه اللي حصل يومها .. يومها تحديدا ً" نظر له (فتحي) بنظرة من عين من هو مقبل ٌ على ضياع مؤكد .. نظرة من فقد كل شيء، نظرة مستريحة جدا ً، مؤلمة ً متألمةً جداً، و يستمر في الحديث كأنما لم يسمع المحامي:
- "الحاجة الوحيدة اللي مصر إن الناس تعرفها، إني ما ساعدتهوش ساعة ما مات، مش عايز حد يتصور إني حاولت أساعده و ما عرفتش، و ده مش نوع من الشجاعة الأدبية .. لأ .. أنا عايز أستمتع تماما ً بإحساسي إني شفته بيموت، و كان ممكن أساعده أو أمنعه عن اللي عمله، و أنا سبته .. دي أهم نقطة يا متر .. و ساعتها بقى إحسبوها زي متحسبوها .. قتلته .. شاركت في قتله .. أي حاجة .. المهم ماتحاولوش تنسبولي حاجة ما عملتهاش .. أو تنكروا عني حاجة عملتها .. فاهنمي يا متر؟"
- "مهو يا أستاذ فتحي لازم أفهم إيه اللي حصل بالظبت عشان أقدر أتعامل مع الموقف .. لأول مرة محضر البلاغ اللي حضرتك عملته ضد نفسك غامض جدا ً، أنا فعلا ً مش قادر أوصل لنتيجة أتكلم بيها .. أرجوك إحكيلي"
يزداد ضياع نظرة فتحي، صار يشعل السيجارة بينما سابقتها في المنفضة لم تمم احتراقها بعد و لم تنطفىء، و يعاود حديثه بهدوء:
- "بمنتهى البساطة .. بعتبر نفسي قتلته و ما قتلتهوش، ححكيلك، و برضو مش حتفهم، بس عايز أؤكد إني لو قتلته، فأنا مش ندمان، لو ما أنقذتوش من الموت، فأنا فخور بنفسي، و حقول كدة في المحكمة"

--------------------------

كالعادة، لم يتوقع (منير) زوارا ً تلك الليلة، فرغ من (مروة) أو فرغت منه و رحلت بحجة أن أمها مريضة، هو يعلم أنها مجرد حجة، يشعر أنها ملت كآبته التي لا تنتهي، لها كل العذر، هو لم يعد يطيق كل تلك الكآبة و الحزن، وإن كان لا يجد فكاكاً، امتصت أحداث حياته كل قدرة له على المواصلة، يشعر أن عليه أن يجتهد ليطوي صفحة ماضيه شديدة الثقل، و يحاول أن يبدأ من جديد. كان على وشك أن يأوى لفراشه استعدادا ً ليوم عمل ٍ جديد، هو ليس شديد الحماس للعمل، و لكنه يشعر أنه أفضل حالا ً بهذا العمل. دق جرس الباب فقط ليتوتر (منير) هو لا يحب ما تحمله تلك الزيارات الليلية أيا ً كان صاحبها، تعود كمصري أن الزيارة الليلية المفاجئة لا تعني سوى مصيبة بالضرورة.

فتح منير الباب ليجد فتحي أمامه.

ـ "إزيك يا منير .. معلش جاي في الوقت ده .. أقدر أدخل؟"

أفاق (منير) من دهشته سريعا ً و رحب بـ(فتحي) بلا حماس حقيقي، عرض عليه كوبا ً من الشاي فلم يمانع (فتحي) و حاول منير جاهدا ً ألا يسأله في غلظة عن سر مجيئه المفاجيء. أغرق منير تساؤلاته في مياه الصنبور الباردة و هو يغسل كوبين قذرين استعدادا ً لمشاركة (فتحي) شايا ً ليليا ً متوتراً، خرج (منير) من المطبخ ليجد (فتحي) انتقل إلى الشرفة و أشعل سيجارة، انتقل إليه (منير) و ناوله كوب الشاي و شاركه الصمت منتظرا ً إياه أن يبدأ الحديث.

بدأ (فتحي) الكلام فجأة.

ـ "مبسوط في الشغل يا منير؟"
ـ " متشكر قوي يا فتحي .. عارف إنك وقفت جمبي جدا ً .. و فعلا ً شايل جميلك بجد"
- "يا أخي بسألك مبسوط ؟؟ مالهوش داعي الكلام ده كله .. عارف يا منير انا دعيتك للشغل تاني ليه؟"

شعر (منير) بتهدج في صوت (فتحي) لم ينجح الأخير في إخفائه، أجاب بحذر:

- "ليه يا فتحي؟"
- "عشان خاطر سامية .. سامية هي اللي كانت مصرة إني أساعدك!!"

أسقط في يدي (منير)، لم يعرف بماذا ينطق، هو يعلم في قرارة نفسه أن (سامية) قد تكون هي المحرك لكل هذا، لكنه لم يتوقع أن يصارحه زوجها.

ـ عرف يا منير .. أنا عمري ما كنت عايزك تيجي تشتغل في المطحنة تاني .. لو القرار يرجعلي أنا بجد .. و الله ما كنت أفكر أقولك تعالى .. بس حنعمل إيه بقى .."

- "فتحي .. في إيه؟ أنا ما طلبتش منك حاجة .. و ما مش فاهم انت بتقول الكلام ده ليه .. على العموم أنا مستعد أسيبلك الشغل من بكرة يا سيدي .. ولا تزعل نفسك .. شايك .. عشان قرب يبرد !!"

- "يا سيدي هدي نفسك .. و ده كلام؟ تسيب الشغل؟ عشان تيجي الست (سامية) تطلعني ابن كلب جزمة .. و ابقى أنا السبب في كل حاجة حصلتلك .. و ممكن أطلع أنا السبب اللي خلا مراتك تسيبك عشان الطلياني .. و يمكن أنا اللي قتلت عيالك .. و يمكن أنا السبب في إنك بقيت هلاهيل بني آدم .. لا يا سيدي .. إوعى تاخد كلامي و تزعل" قالها فتحي بنبرة جريحة، منفعة جدا ً، بينما اربد وجه (منير)، شرد في أسفلت الشارع المظلم، و بدأ لون الشارع الأسود الكابي يتحول للون أبيض .. كأنه امتلأ فجأة بالثلج، أو كأن عينا منير امتلأتا بالثلج، و قال متمتا ً كأنه يكلم نفسه:

- " لو ده اللي جاي تتكلم فيه يبقى تشرب شايك و تتفضل .. أنا مش ناقصك .. و الله الغني عن شغلك"

ـ "لا يا شيخ؟ الله الغني عن شغلي؟؟ .. منير انت محتاجلي دلوقت .. لأول مرة محتاجلي .. و محتاج للشغل .. و خلينا نتكلم بصراحة .. أنا مبسوط إنك محتاجلي .. منير الواد الراجل الجدع اللي مابيخافش حد .. و اللي يأمر فيطاع .. بقى صرصار في مجاري صرف صحي .. فار .. منير اللي بسببه لما بنام مع مراتي ببقى كأني نايم مع لوح تلج .. بقى محتاجلي .. و انت عارف إنك محتاج الشغل .. أنا صريح معاك لأبعد حد .. ما بقيتش قادر أستحمل كدبي على نفسي .. أنا جاي النهاردة لأني حسيت إني محتاج أعرفك بس .. إني مش بساعدك عشان تهمني مصلحتك .. منير انت ولا حاجة .. و ما حدش فينا أحسن من حد .. و مش مكسوف أقولك إن مراتي مش بتحبني .. على الأقل ما سابتنيش عشان حد تاني .. على الأقل ما عرفتش الناس كلها إني مش مكفيها على السرير .. لأ مش مفيش حد أحسن من حد .. أنا أحسن منك يا منير .. أنا قدرت ما اكونش أناني زيك"

تدخل كلمات (فتحي) إلى عقل منير مباشرة دون المرور بأذنه، تتخبط في جمجمته، و تشوش رؤيته، فيمتليء الشاعر تدريجيا ً بالثلج الأبيض، و ببقع دماءٍ تنشع ُ منه، و تمتليء مقلتا (منير) بدموع لم يشعر ُ بها، و فتحي مسترسل:

-" منير أنا بفضفض مش أكتر .. مش عايز أمثل عليك إننا صحاب .. مش عايزك تفتكر إني صاحبك .. كل اللي عايزه إنك تبقى عارف إنك مش محبوب من الناس كلها زي زمان .. منير بص لنفسك في المراية .. انت مجرد مسخ .. مسخ فقد كل شيء و ما قدامهوش غير إنه يقبل اللي بيترماله .. مسخ خلصت كل فرصه من الدنيا .. اتهان بقدر ما يستحق .. انت ما اتظلمتش يا منير .. انت غرورك هو اللي عمل فيك كدة ..غرورك صورلك إنك مستقر في حياتك .. لحد ما فاطيما رمتك .. و حتى الشرموطة اللي انت ساحبها معاك دي كمان يومين و حتزهق منك"

لا يدري (منير) ما ضرورة أن ينفجر فيه (فتحي) بكل هذا الكلام، ولماذا الآن تحديداً، يضيف كلامه ندوبا ً جديدة إلى روح (منير)، يحاول جاهدا ً ألا يسمح للشارع بالمتلاء بالدماء، و لكن الشارع يمتلىء، تزداد بقع الدماء على الثلج، و يبدأ في ملاحظة قطة مذبوحة على الطوار، و أخرى في منتصف الشارع، يزداد عدد القطط. ما كل هذا العذاب؟ ما كل تلك المعاناة؟ تدريجيا ً يعلو صوت مواء جريح، و (فتحي) مستمر:

- " غرورك هو اللي كان السبب في كل الخرا اللي فحياتك .. انت السبب في موت ولادك يا منير .. انت اللي قتلتهم .. انت مش ملاك"

يغرق منير في دوامة من المواء المؤلم الصادر عن الشارع، بالرغم من أنه في شرفة حجرته على سطح أحد البنايات في الدور الثامن، إلا أنه يرى الشارع شديد القرب، يسمع المواء بوضوح، يرى قطة تنظر إليه بألم، كأنها تمد ذراعيها إليه لينقذها من عذابها، و فتحي مستمر:

-" منير أنا فعلا ً سعيد، فرحان عشان بشوفك لأول مرة و انت ولا حاجة .. و انت بقايا"

(فتحي) بدوره يغرق وجهه تماما ً في دموع ٍ لم يشعر بها، و يستمر بنبرة ثابتة الهدوء، متهدجة أحياناً:

- "معلش بس كنت محتاج أعرفك إنك أكتر إنسان أذيتني في الدنيا .. و فعلاً .. نفسي أشوفك بتتعذب أكتر، بعد زيارتك الأخيرة لينا .. و أنا أكبر أمنية في حياتي أشوفك بتموت موتة حقيرة"

لم يعد (منير) يعي كلام (فتحي)، فقط يتحرك بهدوء يرفع جسده بحرص ليقف على سور شرفته، تلك القطط بحاجة إلى مساعدة، وهو يشعر أنه تجاهل أنينها كثيرا ً، يشعر أنه يجب ألا يتجاهل ذلك الأنين مرة أخرى، يريد أن يسرع لمساعدتها. توقف (فتحي) عن الكلام وهو يرى منير يفعل ما يفعل، كأنما أصابته حالة شلل و خرس مفاجئة. شعر (منير) بتوقف فتحي عن الكلام، كان قد كف عن الإنصات، ولكنه انتبه لغياب الصوت فتوجه ببصره إلى فتحي، كأنه يطلب منه أن يستمر في كلامه، كلامه يؤنس تلك القطط في لحظات احتضارها، أراد أن يقول له استمر يا فتحي. في نفس الوقت كانت تنازعه أمنية في أن يقنعه فتحي أنه لا داع لمساعدة القطط الذبيحة الآن، ربما غدا ً، قل لي أن أستريح الآن و أساعدها غدا ً يا فتحي، أنا متعبٌ جدا ً ، و أنت تعلم ذلك. هذا ما دار في عقل منير، بينما وجد فتحي نفسه يتمتم بلا وعي، و كأن الكلمات تخرج من عقله الباطن مباشرة إلى لسانه:

- "نط يا منير .. نط"

----------------------------

قبل أن يلفظ (منير) آخر أنفاسه شعر بقطة تتجه إليه، تتشمم وجهه قليلا ً، ثم تنصرف مبتعدة، (فتحي) أيضا ً رأى ذلك المشهد و هو يراقب جثة منير الساكنة على الأسفلت الأسود للشارع المظلم.

Posted by Guevara at 5:01 PM 10 comments



Sunday, April 23, 2006

(7)

لم يعتد (منير) العمل منذ فترة ، المواعيد الصباحية والالتزام ، تغير كثيرا شكل مبني المطحنة ، لم يعد ذلك المبني القديم ذو المكاتب المتهالكة ، صار نظيفاً ، والموظفون يدل منظرهم علي راحةٍ ما ، صار الآن لمنير مكتبه الخاص ، حجرة صغيرة بمروحة في الركن وصورة قديمة لرئيس الجمهورية خلفه وآية الكرسي أمامه ولكنها كانت كافية للغرض ، لم يكن (فتحي) مديراً سيئاً للغاية كسابقه ، كان دمثاً ، ولكنه كان يعتقد أنه لا يعامله هكذا إلا لأجل (سامية) ، حادثه (فتحي) كثيراً ليلة العشاء عن اليات العمل بالمطحنة حاليا ، لم يكن (منير) مطمئناً تماماً لحديث (فتحي) الذي حاول قدر الامكان أن يكون ودوداً فيه ، نصف ساعة قضاها (منير) في الانصات في الشرفة مستمعا لكلام (فتحي) الودود ، " بص يامنير ، الشغل اتغير كتير عن زمان ، بقي فيه نظام وكل واحد بياخد حقه ، حترتاح جدا يا منير صدقني وهانشوفلك حد يساعدك كمان في العمليات الكتابية اللي انا عارف انك مش بتحبها، انا عايز اريحك" لم يقتنع (منير ) بكلام فتحي عن الراحة وما الي ذلك ولكنه قبل العودة للعمل لأنه أحس أنه يجب أن يفعل شيئاً غير محاولة البحث عن وحدة جديدة كل يوم ، (سامية) أيضاً تغيرت ، ليس فقط شعرها التي جعلته قصيرا ، كل شيء فيها تغير ، يتذكر شكل عينيها الماكرتين وهي تنظر اليه نظرتها الجانبية الماكرة ، ويتذكر أيضا ارتباكها الواضح حين كانت تقابله ، هي الآن ليست المرأة التي ترتبك ، في نصف العشاء كان يعرف أنه يجب أن يخرج من بيتها قاسماً ألا يعود ، أحس أنه لا يعرف أصحاب هذا البيت الذي يستضيفه بكل تلك الحفاوة ، كان حين يسترق النظر إلي (سامية) يجدها تنظر (لمروة) نظرة لم تريحه ، حاول أن يفسرها " هل هي غيرة؟" ولكنه استبعد هذا الاحتمال لأنه من الواضح أن سامية تحب " فتحي" وأنهما يعيشان في استقرارٍ واضح ، دارت بذهنه الآن ذكري موت طفليه ، وذكري الثلاث سنوات التي قضاها وحيداً يلوك ذكري طفليه والتي جعلته بعيدا عن العالم لهذه الدرجة ، وذكري سنوات السجن ، و(فاطيما) التي تحيا الآن في روما مع اصدقائها وربما مع عشيقٍ إيطالي وسيم للغاية ، سمع طرقات علي باب الحجرة ، دخل عم (مرزوق) الساعي ليخبره أن (فتحي بيه) يريده في مكتبه ، قام منير متكاسلاً دق باب غرفة (فتحي بيه) ودخل " منير! انت حددت معاد للمقابلة؟" سأل فتحي ، "مقابلة ايه؟" ، "مش قلتلك عايزين حد يساعدك؟" ، " اه افتكرت ، ماشي ، بكرة الساعة 12 " ، " طيب روح انت يا منير دلوقتي" ، خرج منير وهو يتساءل عن سر طلب (فتحي) له ولماذا لم يخبره هاتين الجملتين في التليفون ، أم هو يرتاب في شيءٍ معين ، دخل (منير) مكتبه وطلب(مروة) في الهاتف ، إنها تسكن معه الآن في بيته ، ويعاملها كزوجته تماما ، وهي أيضا مخلصة له أو هو يراها كذلك .
--------------------------------------
بعد ليلة العشاء لم تتغير حياة (سامية) و(فتحي) كثيراً ، كانت تلك الحياة الهادئة الخالية تقريبا من المشاكل ، وظلت علي هذا الحال فيما عدا أن عاود (سامية ) شرودها المستمر ، وتوقفها عن الكلام بغتة في منتصف الحديث لتسرح بعقلها تماماً ، لم يكن (فتحي) مرتاحا لشرود (سامية) المتواصل هذا ، الكل يحاول مداراة ما كان بين (منير) و(سامية) حتي أم (سامية) حين سألها لم تجبه سوي بهمهمةٍ غير مفهومة ورفضت فتح هذا الموضوع نهائياً ، في هذا اليوم رجع (فتحي) من العمل ليجد (سامية) لم تذهب لعملها واقفة في الشرفة تحدق الي الشارع ، فاجأها فتحي بوجوده ، ، وقف جوارها ، ونظر إلي ماتنظر إليه ، فلم يجد شيئا يستحق كل هذا التحديق ، سألها " في ايه يا سامية؟ ، "شايف يا فتحي القطط المرمية ع التلج هناك؟" ، قطط ايه؟ ودم مين؟ " ، " القطط يافتحي القطط اللي سايحة في دمها اهي" ، تذكر حديثاً مشابها كان يدور ليلة العشاء عن الكابوس الذي ذكره "منير" وعن القطط الميتة حاول أن يربط بينهما لكن لم يعفه عقله المجهد ، "سامية ، واضح انك تعبانة تعالي عشان ترتاحي" ، "مش هاستريح يا فتحي انا عارفة ، مش هاستريح غير لما منير يبطل يحلم بالكابوس ده " ، هو بيشوفها في الحلم وانا باشوفها في الحقيقة أدام عنيا بتصرخ قبل ماتموت" ، وانفجرت في بكاء هستيري أفزعه لم يدر ماذا يفعل غير أن يتصل بمنير ربما يعرف شيئا لا يعرفه ، الهاتف يرن ولا أحد يرد ، لا منير ولا مروة ، ترك الهاتف وساعد سامية تي أجلسها وهي لم تزل تبكي ، ارتمي جوارها ودفن وجهه بين كفيه وبكي هو الآخر ولكن في صمت.

Posted by Pianist at 3:43 AM 6 comments



Saturday, April 15, 2006

(6)

دخل ( منير ) ممسكاً فى يده يداً أخرى بيضاء ظهرت بقيتها فى الشقة على هيئة ( مروة توفيق ) .... بعد أن صافح ( فتحى ) بادر بتقديمها اليه :
" مروة صاحبتى , كان بيننا معاد انهاردة و ماكنش ينفع أؤجله "

صافحها ( فتحى ) ثم قادهما مغرقاً اياهما فى عبارات الترحيب حتى غرفة الجلوس ... ظل ( منير ) يحملق بلا اكتراث حقيقى فى كل ما تقع عليه عيناه حتى جلس فى النهاية على كرسيه بجوار الشرفة ... الضوء خافت و الهدوء يخيم على المكان بلا سببب محدد , و ( فتحى ) مستمر على فترات يلقى بعبارات ترحيب كانت تزيد من ثقل الصمت حين يسكت و لا يجد ما يقوله ... الجو العام رتيب للغاية على غير المتوقع من الجميع , بعد قليل جاءت ( سامية ) بخطوات ثابتة محسوبة .. " ازيك يا منير ؟ "

تقدمت نحو ( منير ) و صافتحه و هو لا يزال جالساً على مقعده مبتسماً تلك الابتسامة المفاجأة كعادته حين يرحب به أحدهم .. أخبرها ( فتحى ) ان الجالسة بجوار ( منير ) هى صديقة له , صافتحها بنفس الترحاب و لكن بلا كلمة واحدة .. تركتهما و اتجهت نحو المطبخ لتعود بصينية كبيرة عليها أقداح فارغة و عدة أطباق ممتلئة بالمخبوزات الصغيرة ... صبت الشاى و وضعت مكعبات السكر دون أن تسأل ... لا يزال السكون اللا مبرر يخيم على أربعتهم مهما حاول ( فتحى ) على فترات السؤال عن آخر الأخبار و الأحوال , الجو مرتبك الى حدٍ بعيد .... استأذن فى النهاية و طلب من ( منير ) مصاحبته الى الشرفة و معه قدح الشاى للحديث قليلاً فى الهواء الطلق حتى تنتهى ( سامية ) من اعداد العشاء ... أشعلا سيجارتين ثم غابا سوية فى الشرفة المظلمة عدا من بضعة أضواء كابية لمحال تجارية أمامهما .

*******

بعد نصف ساعة كاملة أنهى ( فتحى ) حديثه مع ( منير ) و غادرا الشرفة على اثر نداء ( سامية ) لهما .. طاولة الطعام صغيرة تكفى أربعة بالضبط .. ( مروة ) تضع طبقين كانت تحملهما معها ثم تجلس على الكرسى المجاور ل ( منير ) .. الجميع فى اماكنه , بدأت أصوات الملاعق تبطش بالأطباق فى عشوائية كانت فى الحقيقة أكثر تنظيماً من السكوت المرتبك الذى عاد مرة أخرى ليسيطر على العقول ... و دون أن تنظر اليه مباشرة فى عينيه باغتت ( سامية ) الجميع بسؤال ل ( منير ) : " لسه بتجيلك كوابيس يا منير ؟ "

رد عليها بنفس الهدوء و هو لا يزال محملقاً فى قطع المكرونة الباقية أمامه فى الطبق : " غير الكابوس اللى أنا فيه !! " ثم شفع اجابته بابتسامة مفاجأة أيضاً حين لاحظ حدة كلماته .... أطرق الجميع فى صمت , حملقت ( مروة ) فى وجهه ثم أشاحت بنظراتها بعيداً , تشاغل ( فتحى ) بتنظيف بنطلونه من قطعة مكرونة سقطت عليه , ( سامية ) هى الوحيدة التى ردت الى ( منير ) ابتسامته بأخرى أكثر هدوءاً , بعد نوبة سعال زائفة قطع ( فتحى ) التوتر الزاحف : " انت شكلك مش مبسوط م الاكل الظاهر !! "

" أبداً ... أنا قصدى عموماً , الموضوع كله بقى زى كابوس ..... طب استنى لما نخلص أكل و هاحكيلك واحد جالى انهاردة الصبح " ثن نظر الى ( مروة ) قائلاً " ماشى يا مروة !! .. اسمعى الكابوس دا " رد منير .

*******

" كنت ماشى انا و واحد صاحبى بليل فى شارع ضيق فيه مدرسة ... الشارع كان متغطى بتلج أبيض كتير ... جمب سور المدرسة الحديد لقينا ييجى تلاتين أربعين قطة مرميين فوق بعض و سايحين فى دمهم .. قطط بيضا و ناعمة و شعرها تقيل , بقع الدم الحمرا لونها فاقع فوق التلج الأبيض .. حوالين كل قطة بقع الدم محدداها عن القطط التانية , وقفنا ساكتين زى ما يكون كل واحد مستنى التانى يبدأ بالكلام .. فجأة سمعنا حركة قطة تحت رجلينا ... من غير ما أفكر جريت و جبت كيس مرمى ف الشارع و حطيت القطة فيه مش عارف ليه !! ... و أول ما دخلتها الكيس سمعت صرخة عالية فزعتنى .. اتنفضت و رميت الكيس من ايدى , خرجت القطة م الكيس بتعرج و صوت صويتها عالى و أنينها يجرح زى ما تكون ست عجوزة بتموت م الألم .. صرخة احتضار , الدم كان بيسيل منها و هيا ماشية بعيد عنا , دققت فى رجليها اللى بتعرج شفت عضم ركبتها باين أدام عينى ... شايف مفصل ركبتها بعينى مفيش عليه حتة لحم .. رجليها مفسوخة من عند الركبة و عماله بتنزف دم و صريخها لسه طالع للسما و شعرها لسه أبيض و نضيف "

سكت ( منير ) لثانيتين طالتا أو قصرتا لكنهما كانت شديدتا الوطأة على الجميع " بس ... و صحيت "

( سامية ) و ( فتحى ) و ( مروة ) فى حالة موت اذا ما اعتبرنا أن للأموات تلك القدرة على تحريك الملاعق بعصبية غير مفهومة ليصنعوا صوت الاصطدام القاتل على أطباق الطعام بهذا الشكل ... بنفس العصبية سألت ( سامية ) فجأة : " ماكنتش بتحب القطط يا منير ؟ "

رد عليها بسرعة : " لأ .. أنا بحب القطط "

عالجته برد كانت تضغط على كل حرف فيه بنبرة أكيدة الى حد بعيد " أيام الكلية كنت لما بتشوف قطة بتصوت ف الشارع كنت بتجرى وراها تضربها فى بطنها "

سكت ( منير ) للحظات ثم رد باستسلام دون أن ينظر اليها او الى أى شخص فى الصالة : " يمكن ... مش بحب القطط فعلاً "

*******

" مع السلامة يا منير , مع السلامة يا مروة .... مستنيك الخميس الجاى ف المكتب ما تنساش " سمع ( فتحى ) تكة انغلاق المصعد و الصوت المميز لنزوله , أغلق باب شقته ثم ارتمى على مقعد خشبى بجوار الباب و تنهد تنهيدة عميقة ... رفع رأسه و نظر الى آخر الممر على يمينه حيث غرفة نومه , وجد نورها مضاءاً و ( سامية ) تجلس على مقعد مسترخية تحملق فى سقف الغرفة فوقها و سيجارة مشتعلة بين أصابعها .... تحاول فهم الكابوس , تتذكر جيداً حيلتها القديمة مع ( منير ) حين يسأل أحدهما الثانى عن آخر كوابيسه ليبدأ فى الحكى مستخدماً رموزاً خاصة لا يعرفها غيرهما تعنى أشياءاً محددة لكليهما ... أشعل ( فتحى ) سيجارة و هو لا يزال محدقاً فى ( سامية ) التى تحدق بدورها فى السقف و لا تراه ....

Posted by Solo at 10:44 AM 9 comments



Monday, April 03, 2006

(5)

"الحادي و الثلاثين من ديسمبر .. الحادية عشرة مساءا ً.
وضعتُ سماعة الهاتف و انفجرتُ في البكاء، أعلم أنك سمعت صوتي أنتحب في الهاتف، لكنك لم تسمع سوى ما سمحت لنفسي به، ثلاثة سنوات يا منير و أنا لا أمل الاتصال بك فقط لأتاكد أنك لم تنتحر بعد، فأنا أعلم الناس بأنك ستفعلها يوما ً ما، و كيف لا أعرف ذلك يا منير و أنا أعلم الناس بك؟ عرفتك أكثر حتى من زوجتك التي لم تعرف عنك سوى أنك سبب تعاستها، أدرك أنك لم تحبها أبدا ً يا منير، أدرك أنك تزوجتها بعد خروجك من السجن فقط كي تسعد أباك الذي كاد يقتله إحباطه. انت تزوجت (فاطيما) الجميلة لأنني تزوجت (فتحي). و كيف كان لي أن أتزوجك و أنا أخشاك يا منير؟ أخشى أن أتخيل أننا معا ً ، كما أخشى النظر إلى كل شيء أعلم أنه مؤقت ٌ في حياتي و أعلم ُ أنني سأفقده يوما ً ما. كيف كان لي أن أتزوجك و أنا أعلم تماما ً أنك لم و لن تكون لامرأة واحدة. سا محني يا منير."

انتهت (سامية عاشور عثمان) من كتابة كلماتها و شردت في الورقة قليلا ً، ثم اتجهت إلى المرآة و أطالت النظر إلى شعرها الغير منتظم و وجهها الذي تجعد قبل أوانه. تدريحيا ً تحولت نظرتها الشاردة في المرآة إلى نظرة احتقار و اشمئزاز. (سامية) تعلم تماما العلم أنها تجيد الكذب و تصديق الكذبة، تعلم أنها تخلت عن منير ليس لأنها تخشاه، تعلم أن عمّها لواء الأمن المركزي كاد يقتلها عندما علم من أبيها أنّ منير يريد أن يخطبها:" عايزة تتجوزي عيل خول .. فاكر نفسه حاجة؟ عايزة تتجوزي واحد تفضلي انتي و هو متراقبين طول حياتكوا؟ الموضوع ده تشيليه من دماغك لحسن قسما ً بالله .. أرميكي انتي و هو في السجن!!". و الحق أن منير لم يلبث في السجن سوى شهرا ً أو يزيد من أكتوبر 1985 إلى نوفمبر1985، بعدعامٍ واحد من تخرجه من كلية التجارة جامعة الإسكندرية، خرج ناسيا ً كل شيء عن الحزب الشيوعي المصري و عن كل شيء يمت للشيوعية بصلة. و هي لم تكن تفهم شيئا ً في كل هذا، لم تفهم أساسا ً لماذا سجن و لماذا خرج و لكنها خافت. و تجاهلت حلمها بمنير الوسيم المتحمس لكل شيء جديد الذي لم تستطع فتاة أن تقاومه أبدا ً، و إن لم يبذل هو أي مجهود بل و لم يبد ُ مهتما ً أصلا ً.

تزوج هو (فاطيما) الجميلة، و تزجت هي (فتحي) الواعد بحياة مستقرة، و إن لم يفارق منير مخيلتها للحظة، و لم يحب هو (فاطيما) للحظة.

"فقط لو أنك لم تتزوج (فاطيما) يا منير، لو أنك أخترت أخرى بدلا ً من صديقة ٍ لي، لو أنك أجدت لعبة الابتعاد كما تمنيتُ لك أن تجيدها، لو أننا فقدنا كل مقدرة على الاتصال!"

أستطاعت سامية بلا مجهود كبير أن تقنع (فتحي) بمحاولة إرجاع (منير) إلى العمل مرة أخرى، لم ينجح فتحي في إخفاء ضيقه:"أنا مش فاهم يعني .. ده راجل شبه مجنون .. شتم المدير اللي فات و كان وقح مع كل زمايله في الشغل حتى صحابه! إيه اللي يهمك قوي كدة فيه؟" و لكنه كان يعلم ما يهمها، يعلم أن (منير) كان هو سابقه، يخشى رؤيته، يخشى أن يتطرق الحديث إليه دائماً، هو يعشق سامية، و لا يتخيل نفسه بدونها، لذلك يتجاهل كل ما يتعلق بذكر منير دائما ً، هو ذلك الشعور بأن الخطر لن يشتد إلا بذكر الخطر، و منير بالنسبة له خطرا ً كبيرا ً.
"يا فتحي حرام نسيب الراجل كدة .. ده غلبان .. حط نفسك مكانه يا أخي .. و مالكش حجة .. انت ربنا كرمك و بقيت المدير .. إعمل حاجة خير لحد محتاج بقى .. أنا صعبان عليا الراجل و الله" و يذعن (فتحي) بل و يدعو (منير) للعشاء في بيته بحجة أن :" عشان أبقى أخليت ذمتي من الموضوع ده .. و ما ترجعيش تقولي إني أناني و مش هاممني غير مصلحتي .. و لما تبقي تشوفي تصرفاته قدام عنيكي .. تبقي تصدقي إنه ما يستاهلش .. ما يستاهلش أي حاجة !".
و لا تدري (سامية) كيف تتصرف، تشعر بخبث زوجها، و تشفق عليه، المسكين يريد الخلاص بأية طريقة حتى و إن كانت الطريقة أن يدعو منير للعشاء في بيته. أليثبت حسن نيته و يحاول إقناع منير بالوظيفة؟ أم ليعرف ماذا يدور وراء السد المرتفع؟ ليرى ماذا قد يحدث إن إجتمعت زوجها برجلٍ يشك هو أنها تحبه؟
لا تعرف كيف مر الوقت، تعد طعاما ً ثم لا يعجبها فتكثر من الأشياء الغير ضرورية جدا ً و الأطباق الجانبية، يقترب موعد العشاء فتتزين ثم ترتبك كثرا ً فتزيل زينتها بسرعة بالماء فتمتزج الأصباغ و يبدو وجهها شائها ً مخيفا ً فتنظر لصورتها في أية مرآة و تبادر نفسها بضحكة مرتبكة، يقترب الموعد فترتجف. يقترب الموعد أكثر فتردد لنفسها:" راجل غلبان جاي يتعشى عندنا .. راجل مسكين مراته سابته و ولادة ماتوا .. ربنا يخفف عنه".
يدق جرس الباب فتمتقع تماما ً، و تسمع صوت زوجها آتيا ً من الخارج:" يا أهلاً يا أهلا ً .. إيه يا عم بتتقل علينا ولا إيه .. إتفضل يا (منير) .. نورت و الله !"

Posted by Guevara at 8:46 AM 6 comments



Wednesday, March 29, 2006

(4)


التقط السماعة من يدها ووضعها علي أذنيه ، " ألو مين معايا؟" ، " أنت منير صالح؟" ، " أيوة مين معايا" ، " أنا فتحي كنت زميلك في المطحنة ، ازيك يا منير؟ " ، فتحي؟ ، أنا مش فاكر حد بالاسم ده" ، "انا فتحي يا منير ..انا عايز اقابلك .. لازم اقابلك يا منير"
الثامنة مساءاً ، الجو حار جدا وخانق ، جلس في المقهي المتفق عليها إلي أن أتي فتحي ، أنيقٌ هو فتحي هذا ، كيف يعمل رجل بهذه الأناقة في مطحنة للأرز؟ ، مصفف الشعر أشيبه ، يرتدي بدلة كاملة ورابطة عنق من النوع غالي الثمن ، جلس بجانبه دون أن يلقي سلاماً ، اكتفي بنظرة جانبية وهو يقول " أزيك يا منير؟ " ، " انت كنت بتكلمني قبل كده في التلفون وماتردش؟" ،" لأ دي أول مرة أكلمك فيها " ، "طب وحضرتك عايز مني ايه؟" ، " عازك ترجع شغلك تاني ، احنا كلنا عارفين ان موضوع مراتك وعيالك مأثر فيك ، لكن شغلك ماحدش عارف يعمله زيك " ، " طب وانت ايش دخلك بشغلي؟ " ، " أنا هابقي المدير كمان كام يوم ، المدير السابق تعيش انت" ، في هذه اللحظة لم يدر ماذا يقول ، يطلبونه مرة أخري للعمل؟ وهو الذي عاش لثلاث سنوات غارقاً في أفكاره وعذاباته وفشله ، لم يدر ماذا يقول ، عاد للبيت ليجد الفتاة تنتظره ، "اتأخرت" ، " وانتي مالك؟" ، " ماليش أنا بس قلقت عليك أنا غلطانة" ، "طيب" ، دخل غرفته وأغلق الباب ، أمسك خطاب "فاطيما" ، وقرأه بصوتٍ عال ، تخبرني أنها في روما مع هديل ووائل ، من هديل ووائل؟ ، اعتصر مخه باحثاً عن الاسمين فلم يجدهما ، إذن لماذا تخبره عنهما كأنه يعرفهما؟ ، أهما أصدقاء مشتركين؟ أم أقرباء أم ماذا؟ ، زفر في تعبيرٍ عن مللٍ شديد بما يحوطه من أسئلة ومن غموض ، تخبره أنها تكرهه ، تكره حياته ، تكره رائحة دخانه ، تتكلم عن موت الطفلين وعن اللعنات ، ألف لعنة عليكِ ، يشعر أنه في دوامة سحيقة ولا يعرف كيف يخرج منها ، طرقاتٌ علي باب الغرفة ، فتح الباب ليجد الفتاة مرتدية ملابسها وتقول أنها "مروحة" ، " علي فكرة مش هاخد منك فلوس " ، لم يكن مهتما بها كثيراً ، قبل أن ترحل اتفقا علي أنها سوف تأتي إليه في الغد ، حين رحلت ، أحس كم هو وحيد ، مازال مصرّا علي أن زوجته هي التي قتلت الطفلين وهربت للخارج حتي لا يقتلها ، العجيب في الأمر ، أنه لا يتذكر تفاصيل الثلاث سنوات السابقة ، لا يتذكر بعدما علم بموت الطفلين ماذا حدث؟ ، لا يتذكر متي غافلته وسافرت ، ولا يتذكر ماذا كان يفعل ، إنه حتي لا يتذكر ملامح وجهها جيداً ، تذكر "فتحي" ، ومطالبته بأن يعود للعمل ، أكان ناجحاً في عمله لهذا الحد؟ ، إنه لا يتذكر أنه حصل علي مكافأة ما أو حتي كلمة شكر علي عملٍ أنجزه ، كما أن عمله سهل ، لا يحتاج لشخصٍ بعينه لإنجازه ، فلماذا إذن يطلبه ليقابله في مقهي ويطلب منه العودة للعمل ، شيءٌ غريب ، لكنه لن يعود ، لن يفعل شيئاً قبل أن يعرف ماذا حدث لولديه ولفاطيما ، ليس مستعداً لأن يستعيد حياته الطبيعية الان ، في اليوم التالي استيقظ ليجد نفسه كان نائماً علي المقعد الصغير ، وفي يده خطاب فاطيما ممزقاً

Posted by Pianist at 3:03 AM 4 comments



Wednesday, March 22, 2006

(3)

"منير
أنا الآن فى روما .. وصلت هذا الصباح , تناولت فطورى و غذائى مع ( هديل ) و ( وائل ) .. ثم ذهبنا معاً للتجول حاملين الحقائب نحو فندق أقرب من مكتب الجريدة ... صحتى الآن أفضل و آلام الظهر اختفت تقريباً .. الهواء هنا أنقى كثيراً بعيداً عن دخان سجائرك , يمكننى سماع صمتى الآن بديلاً عن الضوضاء التى تحدثها بقداحتك الفضية ؟؟؟
لم يعد هنالك أدنى فرصة فى التكيف ... الأفضل لك أن تعيش وحدك هكذا .. لم أعد أحتمل رائحة عطور عاهراتك الرخيصة تزكم أنفى و تغزو سريرى كل صباح .. منير .. أنا أكرهك .. أكرهك جداً , جداً , جداً ... حتى التواجد معك فى نفس المدينة أصبح متعباً للأعصاب .. ربما سأعود يوماً و لكنى لن أفعل هذا قبل ان تذوب آخر ذكرى كانت لنا .. احتفظ أنت بذاكرتك لامعة كما هى .. ستموت وحيداً فى حضن عاهرة قذرة .. و ستتركك خائفةً لتتعفن فى سريرك أياماً و أيام قبل ان يشتم رائحتك أحد جامعى القمامة
سرائر المنزل خلت من سكانها و سرائر الروح تكدست بالأشباح .. لم أعد أطيق شجارك المتواصل مع سائقى التاكسى و بائعى اللبن و الجرائد .. لقد أصبحنا لعنة يا منير .. منذ مات الطفلان و لعنتنا تأخد شكل الأسطورة .. سأنهى هذا كله و سأبقى هنا فى روما .. ( علاء ) ابن عمى دبر لى العمل هنا فى مكتب الجريدة .. لا تحاول أبداً الاتصال بى الا اذا تعلق الأمر بمشاكل قانونية تطالنا معاً .. لن تحاول الاتصال , هذا أكيد و لكنها القسوة و نشوة الانتقام اللتان تحكمان عالمنا منذ الحادثة
فاطيما "
نظر لها و كعادته لم يشعل سيجارة .. لا يحب رائحة اللذة عندما تختلط برائحة سجائره .. ألقت هى بالخطاب جانباً و أكملت حملقتها فى السقف فوقهما , ثم قالت بتنهيدة مصطنعة لاهية :
-" الحياة دايماً بتبقى كده .. ست بتروح و ست بتيجى ست بتروح ... و ست بتيجى"
مغمضاً عيناه باغتها بعد فترة صمت :
-" ماحستيش الحزن اللى جوايا و ان راكب فوقيكى من شوية .. قصدى و احنا نايمين مع بعض"
التفتت له باستهتار و أطلقت ضحكة خافتة :
-" تفتكر لما وقفت ساكت قدامى ف الشارع الساعة تلاتة و نص الفجر كنت نازلة منين ؟ ... كنت نازلة من عند ظابط ادانى 350 جنيه و قزازة النبيت اللى هناك دى ... و برضه قبلت آجى معاك مشى لحد هنا عشان " تركبنى " قصاد 50 جنيه .. تفتكر بعد كل دا فى حد فينا محتاج يسأل التانى أد ايه الحزن اللى جواه ؟؟"
صمتا طويلاً حتى رن جرس الهاتف فجأة ليكسر صمتها فى قسوة .. ظل رنينه ملحاً .. أشارت له أن يرفع السماعة .. أخبرها بتهكم أن لا فائدة فلن يرد أحد و أشاح لها بيده .. أهملت كلامه و ارتشفت من زجاجة النبيذ رشفة نهمة ثم اتجهت نحو الهاتف و رفعت السماعة :
-"ألو"
بعد ثانية واحدة نظرت له متسائلة:
-" انت اسمك ايه صحيح ؟"
بكل ما أوتى من كسل رد عليها و هو يواجهها بظهره :
-"منـــيــر صــااااالـح عبــد الصــمد"
وضعت السماعة على أذنها ثانية ثم قالت:
-" أيوه منير موجود .. مين معايا ؟ "

Posted by Solo at 12:39 AM 8 comments